ورغم أن مشكلة إيران مع الولايات المتحدة، بالدرجة الأولى، إلا أنها حاولت -كعادتها- استفزاز دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وأطلق قادتها المهووسون بالحرب تهديدات صريحة باستهداف المصالح الأميركية في كل دول المنطقة، وهي حيلة قديمة لم تعد تنطلي إلا على السذج وبسيطي الفهم.
فدول المنطقة -وعلى رأسها المملكة- حتما لن تقف مكتوفة الأيدي وهي تتفرج على اعتداءات تطال أراضيها، وهو ما أكده وزير الدولة بوزارة الخارجية عادل الجبير، الذي سارع بتأكيد أن الرياض لا ترغب في الحرب ولا تسعى وراءها، لكن إن فرضت عليها فهي سترد بكل قوة وحزم على أي اعتداء يستهدفها. وربما يتساءل البعض عن السر وراء التصعيد الإيراني الأخير، ولماذا حدث في هذا التوقيت بالذات، والإجابة تبدو واضحة، وهي أن العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أفلحت في خنق الاقتصاد الإيراني حتى بات على شفا الانهيار التام، وأن بدء سريان السلسلة الجديدة من تلك العقوبات، والمتمثلة في وقف تصدير النفط الإيراني إلى كل دول العالم، ذلك يعني بوضوح تام تحرير شهادة وفاة لذلك النظام الدموي.
لذلك، فإن التصعيد وافتعال أجواء الحرب يهدف إلى تهيئة الشعب الإيراني إلى مرحلة أخرى من المعاناة، ودفعه إلى الوقوف وراء قيادته ومناصرتها، وهي سياسة مكشوفة لم تعد قادرة على خداع أبسط العوام، لا سيما بعد توارد الأخبار الموثوقة التي تؤكد أن أموال ذلك الشعب المسكين، تم تحويلها إلى حساب قادته الذين يتظاهرون بالورع والتقى، ويذرفون دموع التماسيح أمام شاشات التلفاز.
ويعلم القاصي والداني أن إستراتيجية إيران في المنطقة قامت على قواعد أساسية، في مقدمتها افتعال حالة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، تارة عبر محاولات تصدير ثورتها المرفوضة، أو بافتعال الأزمات في مواسم الحج. فدخلت في حرب مع العراق أيام الرئيس الأسبق صدام حسين، وعندما ذاقت مرارة الخسارة وطعم الهزيمة، وأدركت عدم قدرتها على المواجهة، لجأت إلى سياسة الحرب بالوكالة، وتجنيد عملاء ومرتزقة باستثارة عواطف البسطاء وتقديم نفسها على أنها الحاضنة الكبرى للطائفة الشيعية، واستطاعت -للأسف- خداع البعض وأوكلت إليهم مهام كثيرة، تفاوتت بين اغتيال خصومها السياسيين والعمل ضد السلطات والحكومات، والسعي وراء الاستيلاء على الحكم.
ويبدو المثال واضحا في هذا المثال، كما هو في حزب الله اللبناني، وجماعة الحوثيين في اليمن، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق.
كذلك استعان النظام الميكافيلي بالجماعات الإرهابية، مثل تنظيم القاعدة الذي احتضنت قادته وأمدتهم بالسلاح والمال، وأقامت لهم المعسكرات لتدريب أتباعه، كما لا يخفى على أحد الصلات القوية التي تربط بين طهران وتنظيم داعش، رغم الاختلافات المذهبية والأيديولوجية بين الطرفين، لكنها سياسة الغاية تبرر الوسيلة في أوضح أشكالها. عدم رغبة المملكة في الحرب، وسعيها الدائم إلى تأجيل المواجهة وتحاشيها بكل السبل الممكنة، ليس مرده إلى الضعف -حاشا لله- لكنها النظرة الحكيمة التي ترى الشيء فلا تخطئه، وتملك القدرة على تحديد الأفعال وقياس درجة ردودها المضادة، لكن يبدو أن العجز عن رؤية الأشياء على حقيقتها أصاب جنرالات الحرس الثوري بالغرور والغطرسة، وصورت لهم أوهامهم المريضة أن الفرصة مواتية للانقضاض على دول الخليج العربي، والاستيلاء على ثرواتها ومقدراتها، لذلك تمددت أحلامهم واتسعت دائرة أطماعهم، وبعد أن كانت طهران تلاعب الدول العربية في اليمن وسورية والعراق، تحوّل الميدان إلى داخل الأراضي الإماراتية والسعودية، سواء بأيد إيرانية أو عبر مخلبها الحوثي. لذلك، فإن الوضع القائم الآن في منطقة الخليج العربي يؤكد أن كل السيناريوهات قائمة، وأن كل الاحتمالات مفتوحة، وأن نظام طهران الذي يمر بأحلك فتراته وأصعب أوقاته، ربما يكتب نهايته بيديه إذا قام بأي مغامرة طائشة، أو ارتكب حماقة غير مأمونة العواقب، فحينها ستفتح عليه أبواب الجحيم على مصراعيها، وسيكون الخاسر الأكبر هو الشعب الإيراني المسلم الذي ابتلاه الله بحكومة جثمت على صدره عقودا طويلة، أفقرته وأذلّته وبددت موارده وأحالته إلى أحد أفقر شعوب المنطقة، بعد أن كان من أكثرها ثراء واستقرارا ونماء.