سعدتُ -خلال الأيام الماضية- بحضور فعاليات المؤتمر العالمي الذي تقيمه رابطة العالم الإسلامي، تحت عنوان «قيم الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنة»، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي جاءت كلمته معبرة، إذ أكد فيها أن المملكة العربية السعودية التي قامت على منهج الوسطية والاعتدال، والتي تشرُفُ بخدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن، ستواصل -بإذن الله- التزاماتها ومبادراتها بما يحقق آمال المسلمين، كما حوت مفردات ومضامين نحن أحوج ما نكون إليها، مثل: رفض الكراهية والعنصرية، وتغليب مصلحة الأمة على ما سواها، والاعتصام بحبل الله المتين، وتعزيز قيم التسامح والتضامن والتعايش.

ولم تقتصر أسباب سعادتي على مشاركة تلك الصفوة من العلماء والمفكرين، بل بسبب دقة التنظيم، وجودة أوراق العمل، واكتمال كل مقومات النجاح ومعينات التفوق.

وإن كنا قد تحدثنا خلال الفترة الأخيرة عن النجاحات التي ظلّت تحققها الرابطة، والعمل المنظم الذي تقوم به، فإن مرد ذلك يعود إلى وضوح الرؤية لدى قيادة هذه المنظمة الإسلامية العريقة، والأسلوب غير التقليدي في طريقة العمل والتعاطي مع القضايا، والرغبة في تعزيز القيم الإسلامية الأصيلة، وتصحيح الصورة المغلوطة الموجودة في أذهان البعض عن الإسلام، وارتباطه بالإرهاب، وتشجيعه على العنف والإقصاء.

ونظرا لأهمية غرس قيم الاعتدال والوسطية، فقد اعتنى الإسلام بذلك منذ بدايات الدعوة، ذلك أنه الدين الخالد، الصالح لكل زمان ومكان، ولأي بيئة ومجتمع، بسبب المرونة العالية التي يمتاز بها، والقابلية لتطبيقه وإنزاله على أي مجموعة من البشر، وقدرته العالية على التكيف، ما دام ذلك في إطار الثوابت التي لا خلاف عليها، والتي تمثل العمود الفقري لهذا الدين.

فالإسلام لم يأت ليجعل الناس نسخة مكررة، أو ليضيّق عليهم حياتهم، أو ليوردهم موارد العنت والمشقة، بل أتى رحمة لهم، وتوسعة عليهم، وهذا الاختلاف يوجب التسامح الذي لن يتحقق إلا إذا اتّبعنا الوسطية منهجا وشرعة.

خلال الفترة الماضية، أولت الرابطة كثيرا من الاهتمام لتعزيز قيمة الوسطية، وإبراز تسامح الإسلام مع المخالف، وإقرار حقه في اعتناق ما يشاء، ومبلغ ظني أن هذا الاهتمام ينبع من إدراك علماء الأمة ومفكريها أن الوسطية والاعتدال هما أكثر القيم التي ينبغي الاهتمام بها في عالم اليوم، لمجابهة تفشي الأفكار الإرهابية، وانتشار تيارات العنف.

فالاعتدال لا يعني مجرد الاستواء والتوسط، بل إنه يكفل حق الآخر في اتخاذ ما يراه، والدفاع عما يعتنقه، كما يقرّ سنّة الاختلاف التي أوجدها الخالق -جل وعلا- رحمة بعباده، وإثراءً للمجتمعات البشرية.

ومن هنا، صار البشر شركاء جميعا في الحضارة التي صنعها الإنسان، وأصبحت تراثا إنسانيا مشتركا بين جميع الناس، لذلك فإن عناية الرابطة بتعزيز هذه القيم الأصيلة، تؤكد بوضوح ما قاله أمينها العام الشيخ الدكتور محمد العيسى، بأنها لا تحمل هموم العالم الإسلامي فحسب، وإنما تحمل هَمّ الإنسانية جمعاء، وتحرص على تطبيق المواثيق التي قررتها الاتفاقات الدولية، وتسعى في الوقت ذاته إلى التوصل لنتائج تتصدى للصراع المادي بين الأمم والصدام الفكري الحضاري.

كما دعت الرابطة مرارا إلى تشجيع الانفتاح الإيجابي المتوازن على الثقافات والحضارات كافة، أخذا وعطاءً، ولتحقيق ذلك الهدف سارعت إلى تنفيذ برامج متنوعة لترسيخ تلك القيم الأصيلة، والتصدي لتيارات الغلو والتطرف التي تمددت في مناطق الصراع، والتمكين الطائفي، وضعف الوعي.

كما حرصت الرابطة في كثير من مناشطها ومنشوراتها الإعلامية على تأكيد دعوة الإسلام إلى التعايش، والسلام والمحبة، والتسامح والتضامن، والعطف والرحمة، واهتمامه بكفالة الحرية في اعتناق الأديان، ومنع الإكراه، وأوجب المساواة في الحقوق والواجبات، وكفل حقوق الجميع بغض النظر عن أديانهم، أو مذاهبهم، أو أفكارهم، أو أجناسهم، وأنه لا مجال للإخلال بهذه القيم العادلة تحت أي ذريعة.

لذلك، احتفظ بأبرز سماته المتمثلة في الوسطية، وبقيت سمة واضحة في وجدان الأمة، حافظ عليها الصادقون من المنتمين إلى هذا الدين من العلماء والمفكرين، قناعة منهم بأنها ركيزة أساسية لسلامة الفكر من الانحراف والتطرف، وأن هذا الدين قادر بوسطيته المتوازنة وقيمه السمحة على حل مشكلات الإنسانية، كما اضطلعت الجامعات والمعاهد العليا بمسؤولية نشر الوسطية، لأنها وظيفة العلماء والدعاة ورجال التعليم والإعلام ونخبة المجتمعات.

وللأسف، فإنه في هذا العصر الذي ابتليت فيه البشرية بآفة الإرهاب وانتشرت تيارات العنف والغلو، فقد أدركت تلك المجاميع المتطرفة أن الجامعات ومراكز التعليم هي العقبة التي تحول دون قدرتها على الانتشار والتوسع، وأن العلماء هم الترياق الذي يقي الأمة من شرورهم. لذلك، ركزوا جهدهم على إضعاف مكانة العلماء بترويج إشاعات تُغري بالتطاول عليهم، واتهامهم بما ليس فيهم. وهذا الوضع يضع على المؤسسات العلمية عبء استلهام دروس الماضي لصناعة المستقبل، وتطوير الخطاب الديني مع مراعاة العصر والحفاظ على ثوابت الإسلام، وتشجيع البحوث والدراسات التي تؤصل مبدأ الوسطية في الإسلام، وقطع الطريق على مناهج الانحراف والتطرف الملفقة على الإسلام وشريعته.

ختاما، يتوجب توجيه الشكر إلى رابطة العالم الإسلامي على هذه المبادرة الرائدة، التي تأتي كحلقة في سلسلة مبادراتها المتعددة، والتحية لأمينها العام صاحب الفكر المتقدم الشيخ الدكتور محمد العيسى، والدعاء له بالتوفيق في جهوده المخلصة، والتقدير لضيوف المملكة من صفوة علماء الأمة ومفكريها على هذا الجهد الكبير، والدعاء لكل من أسهم في إنجاح المؤتمر وإثراء نقاشه.