عالمنا اليوم عالم لا يصلح له إلا الأقوياء؛ لا أقصد قوة المادة فقط، بل قوة العلم والحضارة كذلك، ومن لا يدرك ذلك من الناس ـ وأخص طلبة العلم الشرعي ـ سيبقى في آخر القافلة، برغبته، أو رغما عنه.. لا شك أن هناك تخلفا في إدراك بعض من يظن أن ديننا عقبة أمام التقدم بمختلف أنواعه، أو يظن أن هناك خصومة بين الدين والعلم، وبتغافل عن كونه ـ الإسلام ـ قد أفسح المجال أمام العلوم، والأبحاث المؤكدة على قيمة المعرفة، وعن هذه النقطة تحديدا يقول الحق ـ سبحانه وتعالى ـ: {وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، وفي آية كريمة أخرى {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}، وهي آيات دالة بوضوح على أن التفكير والتعقل وظائف إنسانية، وأنه لا حدود ولا قيود للبحث العلمي، وأن من يتهم الدين بعدائه للعلم، أو يحاول جعله مضادا للتقدم، لم يفهم الإسلام، لا نصا ولا روحا.. العلم والحضارة والتقدم أمور مشتركة بين خلق الله جميعا، وعلينا إن أردنا تحقيق الصدارة أن ننمي في عقول النشء القدرة على التفكير، وندربهم على النقد، وعلى التخصص في مجالات العلم المختلفة، وخصوصا تلك التي تخدم الحياة الدنيوية، ونساعدهم في التحرر من أسر العقليات التي تنظر إلى الدين بنظرة قاصرة، ونوصلهم إلى اليقين بأن من يملك القوة العلمية حري بأن يتصدر المشاهد كلها؛ لأن الله زينه بالعلم، وقبل ذلك وبعده، بالوعي.. الوعي المطلوب هو ذلك الوعي الذي يمكن أن نصل به إلى إدراك أن الفهم العقيم للدين شكل ويشكل عقبة كبرى في سبيل الرقي، وأن التعددية حماية وأمان، والتنوع نهوض وارتقاء، وأن التنمية مرهونة بأمور كثيرة، في مقدمتها السعي من أجل بناء إنسان سليم قادر على صناعة حضارة تشعر الإنسان بآدميته وكرامته، وتؤمن له ما يسعده في دنياه وآخرته، وتوصله إلى الفهم المستنير لدينه، وأنه دين يدعو إلى تعمير الدنيا، وجعل الحياة فواحة بعبير المودة، ومتدفقة بالخير، وليست حياة فارغة، أو شكليات خالية من الروح، أو جافة محفوفة بكل أشكال الغلو والتطرف. البناء الحضاري مهمة ليست سهلة، والإنسان القادر على المساهمة في هذا البناء هو الذي يستطيع أن يتحرر من عوائق كثيرة، وفي مقدمتها التخلص من منهج (الإمعية)، الذي حذر منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: «لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا»، رواه الإمام الترمذي، وقال عنه حديث حسن غريب.