هذا الحرص السعودي جسدته كلمات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عندما قال في تصريحات صحفية أواسط الشهر الماضي «أمن السودان واستقراره يهمنا كثيراً، ليس للأهمية الإستراتيجية لموقعه وخطورة انهيار مؤسسات الدولة فيه فحسب، ولكن نظراً أيضاً إلى روابط الأخوة الوثيقة بين الشعبين، فقد كان إخواننا وأخواتنا ولا يزالون من السودان جزءاً من نسيجنا الاجتماعي، حيث أسهموا مساهمات مشهودة في مسيرتنا في مختلف المجالات. ولن ندخر جهداً في المملكة لتحقيق الاستقرار والأمن للسودان وشعبه الكريم. ولقد عبرنا في المملكة عما تم اتخاذه من إجراءات تصب في مصلحة الشعب السوداني، وقدمنا كجزء من واجبنا تجاه الأشقاء في السودان، حزمة من المساعدات الاقتصادية، إضافة إلى إيداع مبلغ 250 مليون دولار في البنك المركزي السوداني، وسوف نستمر في موقفنا الداعم لهم في مختلف المجالات حتى يصل السودان لما يستحقه من رخاء وازدهار».
هذه الكلمات الواضحة عكست بصورة دقيقة الكيفية التي ينظر بها السعوديون لأشقائهم السودانيين، فهم ليسوا مجرد إخوة يعملون في بلادنا، بل هم جزء من نسيجنا الاجتماعي، ولنا معهم ذكريات لا يمكن أن تمحوها الأيام، ونحن على ثقة من صدق مشاعرهم نحونا، فهم اشتهروا بفضيلة الصدق وعدم اللجوء إلى الكذب، وتمتلئ صدورهم بالحب لهذه البلاد وأهلها، انطلاقا من التدين الفطري الذي عرفوا به، لذلك ما إن طلبت منهم قيادة التحالف العربي المشاركة في التصدي للخطر الذي تمثله حركة الحوثيين الإرهابية في اليمن حتى سارعوا إلى تلبية النداء، وقد أخبرني أحد من أثق فيهم من المسؤولين السودانيين أن الجنود كانوا يتنافسون على المشاركة في الدفاع عن أمن بلاد الحرمين الشريفين، وأن قرار المشاركة لم يكن قرارا سياسيا بل كان قرارا شعبيا، لذلك ما إن اتخذه الرئيس المخلوع عمر البشير وأعلنه حتى اصطفت خلفه غالبية فئات الشعب السوداني.
ولم تقتصر المواقف السعودية الداعمة للسودان خلال الفترة العصيبة التي تلت الإطاحة بالنظام الإخواني الساقط على مجرد تقديم الدعم المادي، بل إن المملكة نأت بنفسها عن التدخل المباشر في الشأن السوداني، ودعت بقية الدول العربية كي تحذو حذوها، إدراكا منها لحساسية ذلك الشعب الذي يرفض تدخل الآخرين في شؤونه. كما جسّد سفير خادم الحرمين الشريفين، علي بن حسن جعفر، الحكمة السعودية في أجلى معانيها، بتمسكه الواضح بالوقوف على مسافة واحدة من كافة الأطراف، والسعي الحثيث لتقليل الخلافات، والدفع باتجاه التغلب على نقاط التباين والتوصل إلى اتفاق. كل هذه الخطوات كانت تتم تحت سمع وبصر السلطات السودانية وبعلمها، وليس بعيدا في غرف مظلمة كما يفعل الآخرون. كما تجول في معظم أحياء الخرطوم وهو يقوم بزيارات عمل مبرمجة لمعظم القيادات المؤثرة، بحثا عن مخرج للأزمة، وهو ما أكسبه محبة وتقدير كافة الفرقاء، الذين تجاوبوا مع جهوده وقاموا بتلبية دعواته المتعددة. لذلك لم يكن غريبا أن يوجّه أطراف الأزمة الشكر للمملكة على مواقفها الواضحة، ويخصونها بالتحية والتقدير في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه التوصل إلى الاتفاق.
ويدرك السودانيون الآن ما عليهم أن يفعلوه لأجل إخراج بلادهم إلى شاطئ الأمان، بالحرص على إعلاء قيمة الحوار، والتحلي بالصبر لبلوغ أهدافهم المشروعة، والتغلب على العقبات التي حتما سوف تفتعلها بقايا النظام السابق من فلول الإخوان والدول التي تقف وراءهم، والذين لم يعجبهم بطبيعة الحال سقوط حليفهم البشير، الذي طالما دعموا حكمه، دون أن ينعكس ذلك الدعم على حياة المواطنين، لكن الشعب الذي انتظر طويلا للتخلص من ذلك الكابوس الذي جثم على صدره ثلاثة عقود لن يرضى بأقل من تفكيك جماعة الإخوان المسلمين، وإنهاء برامجها المدمرة، والتخلص من كافة آثارها الضارة، وفي مقدمة ذلك قناة الفتنة والضلال، التي ظلت خلال الفترة الماضية تفتعل الخلافات وتذكي نيرانها، وتستضيف بعض المغمورين الذين تقدمهم لمشاهديها على أنهم من قادة المعارضة ليوجهوا الإساءات البذيئة لعناصر المجلس العسكري، وهو ما أدى في بعض الأحيان إلى حالة من الاحتقان وتباعد المواقف بين شركاء الثورة، لكن مما يثير الارتياح هو أن ذلك الشعب المثقف أدرك حقيقة المخطط اللئيم واتخذ قادته قرارهم الصائب بإغلاق مقر القناة ومصادرة أجهزتها وأدواتها.