في سياقات الأحاديث الكثيرة التي دارت وما زالت تدور حول القمم الثلاث التي دعت إليها وترأستها المملكة العربية السعودية، أعزها الله، كان الكلام عن إيران وآثارها السيئة في المنطقة والعالم، هو الأنشط في مجالس الناس بمختلف طبقاتهم.

وفي خضم تلك الأحاديث، لا سيما في الوسائط الإلكترونية، حيث المتابعون والمشاركون من بلادٍ شتى لا تفتأ تستمع من يطالب السعودية بأن تلوم نفسها بدلا من لوم إيران التي -في زعم هؤلاء- عملت كل تلك السنوات بما يؤدي إلى مصلحتها وما يمليه عليه مذهبها الديني، ومن يجتهد لمصلحته وخدمة معتقده لا يُلام، في حين لم يكن للسعودية مشروع تعمل عليه، وتركت المجال فارغا فشغلته إيران، فعلى من أهمل وترك الأمر لها أن يلوم نفسه لا أن يلومها، وعليه أيضا أن يتحمل مسؤوليته أمام التاريخ وأمام تلك الشعوب التي أسهم في ضياعها حين ترك الساحة لإيران وحدها تعبث فيها كيف تشاء.

هذا جانب من الطرح الذي يدور على اختلاف العبارات بين كاتب أو متحدث وآخر، وشيوعه يدل على غبش عن حقيقة الواقع لدى البعض، وتقصد إلى الإساءة وتشويه السياسة السعودية -قديمها وحديثها- لدى الآخرين، وهو كذلك داخل في حملة الهرب من تحمل المسؤولية عن الأخطاء الشنيعة التي وقعت فيها الشعوب والجماعات والأحزاب، وتعليقها على مشجب السعودية، فمن طبيعة الفاشل الذي يأنف من الاعتراف بفشله والاعتذار عنه، أن يعلق أخطاءه على غيره، فذلك هو أقرب منافذ الهرب من مواجهة المسؤولية وأيسرها، لا سيما لدى من يحملون كمًّا كبيرا من أخلاط مشاعر الحقد والحسد والكبر.

والجواب الجامع لمثل هذه الأطروحات طويل جدا، ولا يستوعبه مقال، لكنني سأقتصر على إشارات يستغني بها اللبيب.

فنحن حقا لا ينبغي أن نلوم إيران، لأن للوم عند الكرام زمن ينتهي عنده، ويبدأ بعده زمن المفاصلة، وهو هذا الزمن الذي نعيشه.

لكننا بكل اعتداد بالحق الذي نحمله لن نلوم أنفسنا، لأننا -ولله الحمد- لم نتخل عن قليل أو كثير من واجباتنا تجاه الدول العربية والإسلامية، قدر الوسع والاستطاعة، طوال الأربعين سنة الماضية منذ قامت الثورة الخمينية في إيران وحتى يومنا الراهن.

أما ما سوى ذلك، فلن نكون -بعون الله- مسؤولين عنه من أجل أخطاء الآخرين وجنايتهم على أنفسهم وعلى شعوبهم، ولسنا مطالبين -شرعا ولا مروءة- بعد أن نؤدي واجبنا من العون والنصح، أن نجابِه العالم ونستنزف أنفسنا وقدراتنا، ونُعَرِّض بلادنا وشعبنا ومكتسباتنا للمخاطر الجسام، من أجل من لم يُثَمِّن نصائحنا ويحفظ جنابنا ويعطينا حقنا من الوفاء والود وحسن الجوار، وليس من المصلحة -لا لنا، ولا للإسلام والمسلمين- أن نسعى في إهلاك أنفسنا لأن إخواننا سعوا في إهلاك أنفسهم، بعد أن بذلنا كامل وسعنا للحيلولة بينهم وبين ما فعلوه.

إن التاريخ منذ أربعين عاما يتلخص في أن العالم الإسلامي -والعربي منه بشكل أخص- يعيش اليوم أزمات خطيرة، كان المسلمون -دولاً وجماعات وأحزاب- هم من شد حبالها حول نفسه، ولم يقف في وجه ذلك سوى المملكة العربية السعودية التي لا يمكن توجيه اللوم إليها، لأن دول العالم الإسلامي والجماعات الإسلامية لم تُطعها.

حدث الانقلاب الصفوي في إيران، فكنا -ممثَّلين في دولتنا وعلمائنا- أول من حذّر منه وأدرك عمق عداواته ومآلات فكره، وحاولنا كَفَّ شره عن الأمة بمضمون قوله تعالى: «ادفَع بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ السَّيِّئَةَ نَحنُ أَعلَمُ بِما يَصِفونَ» [المؤمنون: ٩٦]، لكنه أبى إلا عداوة صراحا أوضح من الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك طار إليه الإخوان المسلمون واجتهدوا في تزيينه للناس بمؤتمرات التقارب التي كانت تنظمها إيران، ولم تكن لها من ثمرة سوى فتح المجال أمام فِرَق التشييع، ونشر الفكر الصفوي في العالم العربي والإسلامي. لكن الإخوان المسلمين خادعوا الناس به وما زالوا حتى يومنا هذا يخادعون الناس به، على الرغم من كل ما شاهده العالم بأسره من عدوان هذا النظام على الشعوب المسلمة في إيران نفسها، وفي العراق وسورية ولبنان واليمن، فما زالوا متعلقين به غير ميالين إلى الاستفادة من تجاربهم معه، لكننا نحن ما زلنا نؤكد صادقين أن ما يقومون به خُدعة وغش للإسلام والمسلمين.

أما حزب البعث العراقي، وعلى رأسه صدام، فقد وقفت بلادنا معه في حربه ضد نظام الخميني، على الرغم من عدم رضا السعودية عن بدء الحرب، لكنها حين بدأت أدركت قيادة المملكة أن نصرة العراق -رغم الخلاف العقائدي مع حزب البعث- هو واجب الوقت تجاه المشروع الصفوي.

لكن صدام حسين بعد انتهاء الحرب نهاية قليلة الإيجابية، أدخل المنطقة في نفق مظلم، وجعل نفسه وبلاده في مواجهة الغرب والشرق، واضطر جيرانه وحلفاؤه في مواجهة إيران إلى أن يكونوا في مواجهته هو، حين قلب لهم ظهور المجان واحتل الكويت وهدد السعودية، وسلّم لإيران طائراته الحربية التي اشتراها بأموال الدول التي دعمته في حرب الثمانية أعوام، كما سلّم لها الأرض التي حارب وبذل الدماء والأموال من أجلها، وعلى الرغم من سوء صنيعه بنا -نحن أخلص جيرانه له- فإننا دولةً وشعباً لم نؤيد مقدار كلمة ولا قدر لحظة النخب العراقية من علمانيي أبناء السنّة وصفويي الشيعة، حينما جلبوا أميركا من جهة وإيران من جهة لإسقاط صدام، الذي تعامل مع شعبه ومع العالم بكبرياء وغطرسة، لا تتناسب أبداً ومقتضيات السياسة وفهم الموازين الدولية، ومع أغلاطه الجسيمة إلا أن الحل لم يكن في تعريض العراق للاحتلال ودعم المحتل الأميركي.

لذلك، كانت السعودية في منأى بنفسها عن هذه الجريمة، فهي لا تستطيع منع الولايات المتحدة مما تريد، ولا تستطيع تغيير عقلية صدَّام وطريقته في إدارة السياسة الخارجية لبلاده، فاكتفت بالبعد عن التدخل في هذا الأمر.

لكن قطر جعلت من أراضيها، السيلية والعديد، قاعدتين لانطلاق الطائرات والصواريخ والسفن الأميركية ضد العراق. أما تركيا فجعلت من قاعدة إنجرليك مرصدا للحظر الجوي على العراق طوال مدة الحصار عليه، ثم منطلقا من منطلقات القوات الجوية لتنفيذ احتلاله.

وعلى الرغم مما جناه نظام صدام حسين علينا، لم تنطلق من عندنا بعد تحرير الكويت طائرة ضده، ولم تشارك بلادنا في تأييد احتلاله، كما فعلت قطر وتركيا اللتان كان إعلامهما يُصِم الآذان دفاعا عن العراق، وفضحاً للحرب الأميركية ضده، في حين كانت الطائرات التي غطّت هذا الاحتلال وهيّأت له بذلك الحصار الطويل تنطلق منهما.

أما النخب من الشعوب العربية التي لم تلتفت إلى هذه المفارقة، وأخذت في تصديق دعايات سوء كانت تلصقها قناة الجزيرة وأبواق القوميين والحزبيين بالسعودية، دون أن يقدموا أدنى دليل على ما يأفكون، وحقيقة الأمر أن بلادنا من بعد تحرير الكويت بسنوات قلائل، لم يعد للقوات الأميركية فيها أي وجود، بل كانت هدفا لتآمر أميركي لتقسيمها وإضعافها أو إسقاطها كليّاً، مستخدمين الجماعات الإرهابية والإعلام القطري وسيلة لذلك، وكان توفيق الله تعالى، ثم حكمة ولاة الأمر، وولاء الشعب السعودي لدينه ووطنه وقيادته، حائلا دون نجاح تلك المخططات، ومع ذلك لا يستحون من رمي السعودية بالانصياع لأميركا، ويتبجحون بتقديس الدول التي جعلت من أراضيها قواعد للجيش الأميركي.

ومن المؤسف، أنه رغم انكشاف تلك المؤامرة على السعودية، لم تقف هذه النخب المثقفة والجماعات الإسلامية مع السعودية، مع أن ذلك هو المنسجم مع ما تدّعيه من مبادئ عروبية أو حقوقية أو دينية، لكنها وقفت موقفا مناوئا لبلادنا، منطلقه الحقد غير المبرر.