ربما عقدة ستوكهولم تلبّست كثيرا من المثقفين تجاه زعماء الصحوة، وجعلتهم يشعرون ببعض الترافع عنهم، بينما حادثة فرج فودة والتفاصيل المهمة لمحاكمة قاتله، والأسماء الكبيرة من قيادات الإسلام السياسي، التي حضرت للشهادة، تعطي الشفاء الكامل لكل مثقف مصاب بعقدة ستوكهولم مع الإسلاميين.
ربما تردُّد بعض المثقفين عن المشاركة الفعلية وليس القولية فقط في «2030»، يعود إلى الحاضنة الاجتماعية التي نشؤوا فيها والتي لا علاقة لها بالصحوة، بقدر ما لها علاقة بتقاليد القبيلة التي ترتبك من التقلبات السريعة، ولو كانت إلى الحق، فكأنما هي الجاهلية العربية عندما يستعيدها المثقف في فكرته القديمة التي عاش بها ولا يستطيع التراجع عنها، حتى ولو أثبت التاريخ والوعي الإنساني أنها حمقاء إلى نخاع العظم.
ربما بعض المثقفين يتفاعل مع «2030» وفق معطى براجماتي بحت، فَيَدٌ مع الرؤية ويَدٌ أخرى مع ضريح الصحوة الذي لم يكتمل دفنه بعد، يخشى القطعيات، ويحب نصف الموقف ونصف الدفء، ونصف الكلمة، وتلك مهارة سياسية مقبولة في نطاق اللعبة السياسية، ولكنها عجز وخور في نطاق الموقف الفكري.
ربما بعض المثقفين، بل وكثير منهم مع رؤية «2030» في وعيهم، ولكنهم في اللاوعي ضدها، لا لشيء سوى أنهم انعكاس طبيعي لبيئة منغلقة، تقرأ كتبا في الفلسفات الغربية التي لا تنطبق على واقعنا، ولهذا تراهم يهربون من مكتسبات «2030» في رفع أوزار الصحوة عن كاهل حياتهم العائلية والعملية، إلى حذلقة سياسية عن الديمقراطية يعريها شطر صغير من قصيدة للشاعرة العربية، إذ تقول لهذا النوع من المثقفين: «ليست الديمقراطية أن يقول الرجل رأيه في السياسة، دون أن يعترضه أحد، الديمقراطية أن تقول المرأة رأيها في الحب... دون أن يقتلها أحد!».
ربما بعض المثقفين تأسس فكريا على معطيات قوميّة، كما أن هناك من تأسس على معطيات أممية، متجاهلا النمو الطبيعي الذي كان من المفترض أن يعيه قبل القفز لهذه الانتماءات المقبولة في فضائها السياسي المحدود عبر «رابطة العالم الإسلامي»، وعبر «جامعة الدول العربية»، وما عدا ذلك فمصالح الدولة القطرية الحديثة فوق كل اعتبار، فمن يلوم بريطانيا العتيقة على مناورة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ربما بعض المثقفين يربكهم التغيير كواقع، لكن ضرورات الثقافة كبرستيج/ وجاهة تدعوهم لتأييد التغيير كحلم، ولهذا من حق الرؤية «2030» أن تتجاهلهم وتتجه إلى الشباب والشباب فقط، لأنهم اليورانيوم المخصب للتغيير الحقيقي والسريع والفاعل، فترهّل الواقع القديم لن يجاري الجموح الذي تحمله روح الشباب.
ربما بعض المثقفين ليسوا مثقفين أصلا، بقدر ما هم جمع من نباتات طفيلية وحشرات متلونة، كانت تقتات على رجيع الصحوة. فهم مزيج من دورات تطوير الذات وكتبها مع أشرطة الكاسيت الصحوية، فتراهم يستشهدون بـ«ديل كارنجي» كأقصى ما يمكن أن يقرؤوه من كتب، فهم امتداد لما سمي في التراث العربي «القصاص/ الحكواتية»، وقد تخلقوا أيام الصحوة في لبوس الوعاظ، ومدربي تطوير الذات، وها هم الآن يتخلقون في شكل «مثقف»، لكنهم يرسبون بامتياز في تحقيق الشرط الثقافي ولو بالإحساس الأدبي البسيط لرواية من نوع «زوربا»، فكيف بقصيدة لم يألفوها لشاعر مثل «محمود درويش»، عدا أن يستعيدوا تراث الفارابي وابن رشد وابن خلدون.
التغيير ليس جسرا لنعود إلى البلادة والجمود والتكلس، التغيير رحلة من التطور المعنوي عبر التنمية البشرية والنهضة العقلية، قبل أن يكون وفرةً في أدوات الحداثة، فالبلدان التي اخترعت الطائرة والسيارة، ما زال الفلاح فيها يستدعي بني جلدته لتغيير حدوة الحصان الذي ما زال يستعمله في بعض أغراضه الزراعية، وما زالوا منتجين للمعرفة الإنسانية وعنوانا للنهضة الحديثة، فالعبرة بالروح التي تستوعب التغيير وتتقبل وجود الآميش في وسط بيئاتها، لكن العته الحقيقي وفقدان البوصلة في النخبة الثقافية أن ترى في أمثال الآميش رمزا للحق والصواب والأصالة، وما عداهم زيغ وفساد وانحلال، لكنها ربما إحدى تجليات الحداثة في مضارب البادية، إذ يرعون الإبل وهم على ظهور الرانج روفر وجيب اللكزس.