تجدد المملكة تأكيدها على ضمان مكتسبات المرأة، وعدم السماح بالتغوّل عليها أو المساس بحقوقها التي كفلتها لها الشريعة الغراء وضمنتها القوانين والأنظمة المرعية، وأحدث خطوة في هذا المجال هي قرار وزارة العدل بفتح المجال للمرأة للعمل في مجال التوثيق، وإعلان حاجتها لشغل عدد من الوظائف للنساء بمسمى «كاتب عدل»، وذلك بهدف التسهيل على المستفيدات من الخدمات التوثيقية، وتجديد التأكيد على السعي الحثيث للوزارة لتمكين المرأة في المرفق العدلي، بعد قيامها أخيراً بتعيين عدد من النساء المؤهلات في مجالات القانون والشريعة والاجتماع والإدارة والتقنية.

وكانت الوزارة أصدرت بيانا الأسبوع الماضي، دعا إلى «رفع الظلم عن المرأة، وذلك بمنع العضل أو إجبارها على الزواج، فضلا عن تجريم هذين الفعلين»، حسبما جاء في نص البيان الذي أكد حق المحكمة في تزويجها في حالة تعرضها للعضل، مع التشديد الواضح على ضرورة سماع موافقتها لفظيا من المأذون، وتسليمها نسخة من عقد الزواج، وعدم تنفيذ الحكم الذي يجبرها على العودة إلى بيت الزوج.

كذلك أكد البيان التاريخي أن عدة الزوجة تبدأ من تاريخ النطق بحكم الطلاق، وليس من تاريخ تصديقه من محكمة التمييز في حالات فسخ النكاح، وكذلك تطرق البيان إلى قضية في غاية الأهمية تؤرق كثيرا من الأمهات، وهي حق الزوجة في حضانة أولادها دون دعوى قضائية، إلى جانب التنفيذ الفوري لحكم النفقة أو رؤية الصغير أو تسليمه لها، ومنح الخيار للابنة البالغة عند من تقيم من أبويها، ما لم تختر ما يخل بالآداب والصيانة.

كما أكدت على حق الأم بكفالة القاصر ذكرا كان أو أنثى. إضافة إلى حقها في إقامة دعاوى الحضانة والنفقة والعضل في بلدها، وإلزام المدعى عليهم بالحضور، والتنفيذ المعجل للأحكام الصادرة لصالحها في الحضانة والنفقة، وحق الحصول على معاش الضمان الاجتماعي إذا تغيب الأب عنها وعن أبنائها. ورفع الضرر عنها بأحكام قضائية عاجلة لحين الانتهاء من قضيتها، كما تطرق البيان إلى ضرورة تسجيل وكالات المرأة دون أن تكون الوكالة لمحرم، وتعريفها ببصمتها دون حاجة لمعرف، وخدمتها عبر عناصر نسوية.

ومضى البيان إلى تعزيز حقوق المرأة التي نالتها خلال الفترة السابقة، خصوصا تلك التي تطرقت إليها رؤية المملكة 2030، لاسيما المتعلقة بفتح آفاق العمل أمامها، وتقليل نسبة البطالة وسط النساء، وزيادة نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، وعزّز البيان من ضمانات المرأة في الخدمات العدلية والدعاوى، ومنحها حق الحصول على رخص التوثيق والمحاماة والتوظيف في خمسة مجالات بوزارة العدل، والالتحاق بدبلوم المحاماة المنتهي بمنح رخصة العمل، كما تطرق إلى قضايا أخرى مثل حقها في الميراث، ومنع إسقاط حقوقها إذا لم تطالب بها، وغير ذلك من القضايا.

وبطبيعة عملي المرتبطة بالمحاكم، فقد كنت شاهدا على معاناة كبيرة تتكبدها شريحة واسعة من النساء فيما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية، في ظل تعنت ذكوري يمارسه كثيرون ممن يرفضون منح النساء حقوقهن، رغم اجتهاد كثير من القضاة الأفاضل، لكن البعض كان يماطل في الحضور إلى المحاكم، فيحضر جلسة ويتغيب عن الأخرى، ويتذرع بأسباب واهية وأعذار غير مقنعة، بل إن بعضهم كان لا يتورع عن إبداء رفضه العلني للتجاوب مع الجهود التي يبذلها القضاة ولجان التوفيق الأسري، بل ويتوقف عن تسديد النفقة الشرعية لمطلقته أو أبنائه. كما يمتنع كثيرون حتى عن تسليم مطلقاتهم الصكوك التي تثبت وقوع الطلاق وانتهاء العلاقة الزوجية بينهما، مما يضع المرأة في موقف حرج، فلا هي متزوجة مستقرة مع زوجها ولا هي مطلقة تملك حريتها ويمكنها الاقتران بمن تريده. لذلك فإن البيان الأخير يمثل خارطة طريق لما ينبغي أن يكون عليه الوضع خلال الفترة المقبلة من إبداء الحسم اللازم والشدة المطلوبة مع من أدمنوا التسويف وارتضوا هضم حقوق النساء.

من أكثر ما لفت نظري التوقيت الدقيق لصدور البيان، حيث جاء في وقت تشهد فيه بلادنا تسارعا للخطوات الرامية إلى دعم مسيرة المرأة، ومنحها الفرصة للإسهام في تنمية مجتمعها على كافة الأصعدة، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وإزالة القيود المصطنعة التي يصر عليها بعض المتشددين، ونشهد خلال الفترة الحالية من هذا العهد الزاهر في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز زيادة مساهمة المرأة في تطوير واقعها، ومشاركتها في دفع عجلة التنمية، ووجودها بكثافة في مواقع الإنتاج، لذلك فإن صدور البيان في هذا التوقيت الحساس يعطي رسالة واضحة المعالم بأن القيادة الكريمة ماضية في هذا الصدد، وأنها تمنح ثقتها الكاملة للمرأة كي تتقدم أكثر وتتبوأ موقع الصدارة اللائق بها، لا سيما بعد النجاحات المتلاحقة التي حققتها على المستويين الداخلي والخارجي.

ما تشهده بلادنا ولله الحمد في الوقت الحالي ليس مجرد تنمية اقتصادية أو نهضة ثقافية، بل هي مراجعة شاملة، نهدف منها إلى النظر فيما مضى من تاريخنا ومعرفة أوجه الإيجابيات لتقييمها والسلبيات لتقويمها، ولا يعني بذلك أننا كنا على خطأ أو إخفاق، ولكن لكل مرحلة في الحياة مفرداتها ومتطلباتها الخاصة التي قد تنتفي وتنتهي صلاحيتها في الفترة التي تليها، باختلاف الظروف الموضوعية وتطور تفكير الإنسان وتغير نمط حياته، حتى على المستوى الشخصي، فإن من لا يواجه نفسه ويراجع قناعاته ويصارح دواخله ويصحح أخطاءه فهو إنسان متكلس جامد، يحاول الوقوف في وجه سيرورة الأيام ومناطحة قطار الزمن، ومثل هؤلاء لا يملكون القدرة على التعايش ومسايرة التطور والتقدم، ولا يستطيعون مواجهة ذواتهم أو مصارحتها.