يحكى أن ثلاثة أصدقاء، كيميائي وجغرافي واقتصادي، استقلوا قاربهم الصغير وتوجهوا صوب البحر في رحلة. وبعدما ابتعدوا عن الشاطئ وصاروا في وسط البحر، تعطّل قاربهم. أدركوا أنهم في مأزق قد يستمر طويلا. كان زادهم من الطعام «معلبات» جاهزة، وهو ما خلق لديهم حالة من الاطمئنان، لكنها سرعان ما تبددت وتلاشت عندما عرفوا أنهم لا يملكون «فتاحة» لهذه المعلبات. أخذت علامات الأسى تمتزج مع تقطُّبات الحيرة التي ارتسمت على وجوههم، وهم يواجهون واقعا لا يحسدون عليه. بدؤوا يفكرون كيف يفتحون هذه المعلبات. قال الكيميائي: لا عليكم سنعرِّض أغطية المعلبات لماء البحر المالح فيصبح رخوا يمكن فتحه. وقال الجغرافي: ويمكن أيضا أن نعرِّض أغطية المعلبات على أشعة الشمس الحارقة فيسهل فتحها. هنا قال الاقتصادي: لماذا كل هذا العناء؟ لنفترض أن لدينا «فتاحة» معلبات، ونفتح بها ما لدينا منها.

ما قاله هذا الاقتصادي، هو عبارة تلازم «كل» نظرية اقتصادية، وهي عبارة «مع افتراض أن...». هذه هي «كلمة السِّر» التي يرتكز عليها الفكر الاقتصادي. ولا تقلل هذه العبارة من قيمة أو أهمية الاقتصاد كعلم، بل هي في واقع الأمر تؤكد على الجانب الموضوعي المهني في هذا العلم، الذي استطاع أن يؤطِّر فعل الإنسان وتصرفاته في إطار نظري قابل للتحليل والقياس. الاقتصاد علم يتعامل مع الإنسان ويقوم على دراسة وتقييم وتوجيه فعله وتصرفاته في استثمار الموارد المتاحة له، بما يحقق له الاستقرار والرفاه. هنا لا بد من أن تفترض أن هذا «الإنسان» يفعل ويتصرف بعقلانية. فافتراض الرُّشد في فعل وتصرف الإنسان شرط ضروري لبناء النظرية الاقتصادية. وتأسيساً على ذلك، يمكن القياس على أن عبارة «مع افتراض أن...» تهدف إلى خلق حالة مثالية من الواقع، تُبنى على أساسها النظرية الاقتصادية التي يمكن إسقاطها، بعد ذلك، على أرض الواقع بتفكيك المتغيرات التي تم افتراض ثباتها، وفق الحاجة العملية لتطبيق النظرية الاقتصادية. ولعل المثال التقليدي الذي يمكن الإشارة إليه لفهم هذا السياق، هو افتراض ثبات «جميع الأشياء الأخرى» عند شرح توازن السوق، وفهم آلية التسعير في نظرية العرض والطلب، من أن زيادة العرض تؤدي إلى انخفاض السعر. إذ لا يمكن أن يكون ذلك صحيحا على الإطلاق، إن لم يُفترض ثبات جميع الأشياء الأخرى، ومنها جانب الطلب، والتي تؤثِّر، بالضرورة، على قرار أحد الجانبين أو كليهما.

في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن أدبيات الاقتصاد الحديث قد بالغت في التوجه نحو ما يعرف بالاقتصاد القياسي، حيث يتم بناء نماذج قياسية تقوم على معادلات رياضية، حيث إنها خلقت بذلك مسارا علميا أشبه ما يكون بالطلاسم لغير المتخصصين في عالم الاقتصاد. كما استنفدت أدبيات علم الاقتصاد الحديث، كثير من الجهد في شرح ومعالجة بعض القضايا الجزئية في الاقتصاد، وعرضت نماذج للتوازن الجزئي، وهو ما أدى إلى إغفال قضايا مفصلية يعانيها الاقتصاد الكلي، وتتعلق، بالضرورة، بحياة الناس واحتياجات المجتمع.

ولهذا، فإن الاقتصاد، كأحد العلوم الاجتماعية، يواجه الآن تحديات صعبة. ولهذا كتب عدد غير قليل من المتخصصين في علم الاقتصاد عن «سقوط علم الاقتصاد». ويرى البعض الآخر أن من غير الإنصاف القول بسقوط علم الاقتصاد، مؤكدين أن الاقتصاديين، في الغالب، لا يديرون الاقتصاد، ولا يتخذون قرارات تؤثِّر على الاقتصاد. وهذا صحيح، فالاقتصادي يقدم فكرا فقط، والتنفيذيون هم الذين يمتلكون دفّة القيادة في الاقتصاد، وهم من يتخذون القرارات. وهم، في الغالب، من غير المتخصصين في الاقتصاد. ما يطرحه الفكر الاقتصادي هو أسس علمية و«خارطة طريق» عملية. وهو بذلك ينير الطريق أمام من يتقدم مسيرة التنمية ويوجِّه دفتها، وتلك مسؤولية وأمانة يحملها التنفيذيون ويسألون عنها.