يُقَال إن العقل سُمي بذلك لكونه يعقِل صاحبه عن مقارفة ما لا يليق، فهو لصاحبه كعقال البعير الذي يمنعه من السير حيثما يَكره صاحبه، وربما قلنا إن هذا المعنى يؤيده أن أحد أسماء العقل في القرآن الكريم: الحِجْر، كما في قوله تعالى﴿هَل في ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حِجرٍ﴾ [الفجر: 5] قال الطبري: «لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال» وقيل: بل سُمِّي عقلاً من العقل بمعنى الحفظ، من عَقَلتُ الدراهم إذا حفظتها، فهو يحفظ ما يُلقى إليه من الأفكار والعلوم والتجارب.

وقيل سُمي العقل من عقلت الشيء إذا وعيته وفهمته وسبرت غوره وأفدتُ منه كما في قوله تعالى:﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ [الحج: 46] فاشتق من العقل فعل يعقلون وأسند هذا الفعل إلى القلب لأنه موضع وقوع العبرة والإفادة منها والتأثر بها.

والمتأمل يجد أن العقل الذي هو اسم لجهاز التفكير عند الإنسان لا يمتنع عنده أن يكون هذا الاسم مشتقاً من كل تلك المعاني وحاوياً لها؛ فالعقل حارس ومُوَجِّه ومكتشف وحافظ، وله غير ذلك من المهام العظيمة التي تُشَكِّل الفارق الأساس بين الإنسان وسائر المخلوقات، وهو مناط التكليف والذي لأجله ساق الله تعالى البراهين العظيمة في كتابه على وجوده عز وجل ووحدانيته وتفرده بالألوهية والربوبية واستحقاق العبادة.

لذلك جاءت الشريعة الإسلامية معطية للعقل حقه واضعة إياه في مكانه الصحيح من العمل وجعلت له محله من إتاحة النظر؛ بل ووضعت له أيضا مكانا في تشريع الأحكام في مواضع من الفقه جعل الشرع الحكيم المرجع فيها إليه.

وهذا ما يتبناه المنهج السلفي الذي يمثل حقاً الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما فهمه عنه السلف الصالح.

فمن مظاهر تعظيم شأن العقل في المنهج السلفي مذهبهم في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وخلاصة هذه المسألة في علم الكلام: هل العقل قادر استقلالاً على معرفة الحَسَنِ والقبيح من الأفعال التي يتعلق بها المدح والذم، أم هو عاجز عن ذلك مفتقر فيها إلى الشرع، فمذهب أتباع مدرسة السلف أن العقل قادر على التحسين والتقبيح بذاته قبل ورود الشرع، وأن الحُسن والقُبح من صفات الأفعال؛ ووافقهم المعتزلة في هذه الجزئية، إلا أن المعتزلة خالفت العقل والشرع حين بَنَتْ على هذه المسألة إثبات الثواب والعقاب قبل ورود الشرع، فمخالفتها للعقل ظاهرة من كون التعذيب قبل النِذارة لا يتوافق مع منظور العقول للعدل، ومخالفتها للشرع لكون الله تعالى يقول: ﴿من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ [الإسراء: 15] وأما الأشاعرة فمنعوا أن يكون العقل قادراً على معرفة حُسن الأفعال وقُبحها، وأن ذلك لا يمكن معرفته إلا من قِبل الشرع، وأن الأفعال قبل ورود الشرع ليس لها صفة ذاتية من حُسن أو قُبْح، فخالفوا بذلك العقل والشرع؛ أما العقل فخالفوه حين جرَّدوه من صفة فطرية له يعلمها الأطفال من عقولهم فضلاً عن كبار الناس وحكمائهم، وهي قدرة الجميع على معرفة الحَسَن والقبيح حتى توارثت الأمم مسلمُها وكافرُها حُسن الصدق والوفاء والكرم والعفاف والعدل والأمانة وحسن ما يؤدي إلى ذلك، وقُبح الكذب والغدر والبخل والسِّفاح والظلم والخيانة وقُبح كلِ ما يؤدي إلى ذلك؛ وأما مخالفتهم للشرع فذلك أن الشرع حين دل على الخير وحذر من الشر خاطب أولي الألباب، وهم أهل العقول مما يرشد إلى أن الشرع جاء بما تقتضيه العقول الراجحات؛ قال تعالى:﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب﴾ [آل عمران: 7]

وبنى الأشاعرة على قولهم هذا قولاً آخر عطلوا فيه العقل أيضا وهو أن رأيهم هذا حملهم على إنكار الحكمة في أوامر الشرع ونواهيه؛ بل في أفعاله قاطبة، كما قال الرازي: «اتفقت المعتزلة على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية مصالح العباد وهو اختيار أكثر المتأخرين من الفقهاء وهذا عندنا باطل»، وهم لا ينكرون الحِكمة وإنما يُنكرون كونها مُرادة لله في خلقه وأوامره ونواهيه، ويرون أن الحكمة مترتبة على أوامر الله لكنها ليست ناشئة عنها؛ ولذلك يرون جميع أحكام الله تعبديةً لا حكمة من إنشائها سوى إرادة الله.

وهذا القول مُعَطِّل للعقل لأنه يلزم منه القول بالعبث تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين﴾ [الأنبياء: 16] وأيضاً هو قول معطِّل للشرع لأن الله وصف نفسه بالحكيم في عدد من المواضع في كتابه ومقتضى ذلك أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء إلا والحكمة تقتضيه؛ والحديث في ذلك طويل استقصاه ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحِكمة والتعليل. والعجب من هؤلاء الذين رأوا عجز العقل عن تحسين أفعال العباد وتقبيحها زعموا أن هذا العقل العاجز قادرٌ على معرفة الكيفية في صفات الله تعالى، فما عجزوا عن تكييفه بعقولهم من الصفات نفوه، وما توهموا قدرة عقولهم على تكييفه أثبتوه على وجه لا يقره عقل ولا شرع كإثباتهم صفة الكلام لله حيث زعموا أنه كلام نفسي في الأزل، وبذلك منعوا القول بقدرة الله على التكلم متى شاء وكيف شاء على الوجه الذي يشاء، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ومن مظاهر تعظيم العقل في المنهج السلفي استدلالهم بالقياس في أحكام الشريعة، والقياس هو إثبات مثل حكم معلوم ورد فيه نص بمعلوم لم يرد فيه نص لاشتراكهما في العلة التي هي مناط الحكم، وقد قاس الصحابة رضي الله عنهم وقاس التابعون وقاس الأئمة، وتطرف في القياس طائفتان: الأولى الظاهرية الذين نفوه بحجة إعلائهم للنصوص، والأخرى أهل الكلام الذين زعموا أن النصوص لا تفي بمعشار الشريعة إذ هي متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يمكن أن يضبطه ما يتناهى، وهذا ما ذكره السمعاني في قواطع الأدلة والجويني في البرهان؛ وهو كلام مخالف للعقل والشرع، فأما العقل فإنه من غير المتصور عقلاً أن تكون النصوص بعدد الوقائع لأننا لو شرطنا ذلك في الشرائع لم تصح شريعة ولا قانون في الكون أبداً؛ ولأصبحت الشرائع غير مؤهلة للاتباع لكونها قاصرة عن حاجات الناس، فكيف بأكمل الشرائع وأرضاها عند الله تعالى؛ ولذلك فإن حكمة الشريعة تقتضي أن تتضمن نصوصُها من العمومات والإطلاقات والقواعد الجامعة ما يفي بحاجات المشترعين؛ وهذا ما يلتزمه صُنَّاع القوانين الوضعية فكيف بالشريعة الإلهية التي قال ربها ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ [الأعراف: 52]؛ وقد استوفى الرد على هذه الشبهة ابن قيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين.

والصواب: أن عمومات النصوص وإطلاقاتها وقواعدها فيها كفاية لقيام الحجة بها كاملة على العباد، وأما القياس فهو حجة صحيحة فيما كان حكم الأصل فيه ثابتاً بالنص، فإذا ثبتت المساواة بينه وبين الفرع بسبب وجود العلة المنصوصة أو المستنبطة استنباطاً صحيحاً كان حكم الفرع في مقام الثابت بالنص وفي الأمر تفصيل يطول شرحه.

ومن مظاهر تعظيم العقل في المنهج السلفي بناء الأحكام بإثبات الندب أو الإيجاب لبعض أفعال العباد فيما الأصل فيه الإباحة حين تغلب مصلحتها لأمر خارج عنها، وكذلك إثبات الكراهة أو التحريم فيما الأصل فيه الإباحة أيضاً عند غلبة مفسدته لأمر خارج عنه؛ وذلك إما باعتبار مآلات تلك المباحات وهو ما يُعرف بسد الذرائع وما يعرف بفتح الذرائع، أو لأمور محيطة بالفعل من أحوال الزمان والمكان، وهو ما يعرف بالاستصلاح.

وقد يُعْتَرض بأن ذلك مما لا يختص به منهج السلف بل يُشاركهم فيه المتكلمون الذين هم الأكثر كتابة وبحثاً في مسائل الاستصلاح ومقاصد الشريعة؛ والجواب أنهم حين يكتبون عن ذلك فإنهم يناقضون أصلهم في إنكار الحكمة إذ كل ذلك مبني على إثباتها لهذا تجدهم مضطرين لإيجاد مخارج تكفل لهم اتِّساق المذهب بين إنكار الحكمة وإثبات المقاصد والمصالح؛ فأطالوا البحث والتشقيق في محاولات للتفريق بين المجتمِعات والجمع بين المتفرقات حماية لمذهبهم؛ وكان الأوفق للعقل إثبات الحكمة لله تعالى والانشغال ببيان أن القول بنشوء الأحكام الإلهية عن حِكْمَةٍ لا يعني تشبيه الخالق بالمخلوق كما يتوهمون، وبذلك يتسق مذهبهم بطريق أحكم وأعدل. وليس ما تقدم كل ما يظهر منه تقدير السلفية للعقل بل هو شيء من التأصيل في هذا المجال لإثبات أصل الفكرة وليس لاستيعاب ما يمكن قوله والله الموفق.