كنت أرغب في أن أعترف إليكم بعدد من الاعترافات في بداية كتابتي هذا المقال، ولكني وجدت أن اعترافاتي ستصبح عديمة الجدوى إذا ذكرتها لكم بكل يسر وسهولة. والحقيقة -أيها الكرام- أنني أحب التفكير والقراءة والاطلاع دائما على الأعمال التي تختص بخفض التكاليف والميزانيات في الجهات التنظيمية، وأيضا تلك التي تعمل على توحيد الجهود وتنسيقها، للوصول إلى الأهداف بأسهل وأيسر السبل.

قبل فترة، تحدثت في إحدى مقالاتي، والتي ستجدها بطبيعة الحال على موقع الجريدة الإلكتروني لو أردت الاستزادة، بعنوان «مجالس التنسيق ضرورة أم استنزاف إداري»، تحدثت فيه عن ضرورة إنشاء غرفة تنسيق موحدة مرتبطة برؤساء الجهات الثلاث (الثقافة ـ الترفيه ـ السياحة)، وذلك ليتم تنسيق أعمال جهاتهم بالشكل الأمثل والأجود، وأيضا كي لا تتداخل أعمالهم مع بعضهم فيما يقدمونه للوطن والمواطنين.

مقالي اليوم لا يتحدث عن التنسيق، بل يتحدث عما يسميه المتخصصون في الإدارة الإستراتيجية «عمليات الاستحواذ والاندماج بين الكيانات».

والحقيقة، إن فكرة الكتابة عن هذا الموضوع بدأت تدور في رأسي بعدما صدر أمر من مجلس الوزراء بنقل المهمات المتعلقة بإقامة وتنظيم فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية، من ملاك وزارة الحرس الوطني إلى وزارة الثقافة.

أقول أيها الكرام، إنني -وبعد تأمل في مدى ما يمكن أن تصل إليه وزارة الثقافة وهيئة السياحة والتراث الوطني- وجدت أنني أمام وجهين لعملة واحدة.

أعتقد أننا على المدى الطويل سنقع في مآزق الاصطدام بين أعمال هاتين الجهتين، وذلك لأنهما متقاربتين بشكل شديد في المحتوى الذي يقدمانه للمستفيدين من وجودهما. أنا -كمواطن عادي- لا أعتقد أنني أستطيع التفريق بين ثقافة هذا البلد أو ذاك وبين تراثه. في اعتقادي أن التراث هو جزء لا يتجزأ من الثقافة المتشربة في العقل الباطن لدى الوطن وأبنائه.

يقول ناصر الفراعنة في لقائه في رمضان الماضي مع عبدالله المديفر، إن تاريخ الجزيرة العربية من القرامطة وحتى قبل الدولة السعودية الأولى، لم يتم التعرف عليه بشكل جيد، ولذلك فإنها على -حد قوله- فترة مظلمة، ويقول: إنها فترة قد تصل إلى ستمئة سنة. حسنا، تخيل معي عزيزي القارئ، لو تم اكتشاف مقبرة أثرية تعود إلى مئات السنين عن حقبة من الحقب المنسية في صحاري نجد، أو في أي جزء من أجزاء وطننا الغالي. وبعد التنقيب والحفريات تم التأكيد على أن هذه الموجودات تعود إلى دولة من الدول التي لم يتم إشباعها بالبحث والرصد من قِبل الباحثين التاريخيين. ولذلك، فإنه يجب أن يتم عمل معرض كامل عن هذه الدولة المنسية، وعن آثارها التي تم اكتشافها، ويصاحب هذا المعرض مؤتمر صحفي، تتم فيه دعوة دعوة الباحثين والمثقفين إلى الانضمام إلى برامج سيتم استحداثها للبحث عن تاريخ وثقافة هذه الدولة الُمكتشفة، وسيتم تخصيص مراكز جديدة وميزانيات مالية لهذا الشأن.

برأيك يا صديقي، لو كنتَ مسؤولا في وزارة الثقافة، هل ستسمح لهيئة السياحة والتراث الوطني أن تأخذ منك هذا المشروع الذي تراه أنت حقا أصيلا من حقوقك، إذ إنك ترى أن الأعمال التي ستصاحب هذا المشروع هي في الأساس تعود إلى ثقافة طويلة وعريضة ضمن ثقافات هذا الوطن. وهي بالطبع من صميم أعمال وزراتك. قل لي هل ستسمح أم لا؟.

حسناً، لو كنتَ مسؤولاً في هيئة السياحة والتراث الوطني، هل ستترك هذا المشروع التراثي الذي يبشر بسياحة وطنية عظيمة ستحدث مستقبلا، مع ما سيصاحبها من مهرجانات وبرامج متخصصة في آثار تلك الحقبة وبقاياها التراثية. أقول، هل ستترك هذا الأمر لوزارة الثقافة أم ستطالب به لهيئتك؟.

أيّاً تكن إجابتك عزيزي القارئ. فإني هنا أتحدث عن حالة افتراضية. ولكني أريد أن أصل إلى القول إنه إذا كانت الآثار والتراث والسياحة ترى أنها بمثابة الوجه الخارجي الجميل للوطن، فإن الثقافة ستعتبر نفسها أنها الجانب الداخلي المشرق للمواطنين الذين يعيشون في ذلك الوطن.

ولذلك، فإن المسؤول في السياحة والتراث لن يسمح بأن تأخذ وزارة الثقافة الجوانب التي يرى أنها متعلقة بأعماله، والمسؤول في الثقافة لن يترك للسياحة والتراث أن يأخذوا ما يرى أنه في صميم أشغاله.

ما الحل إذًا، الحل -من وجهة نظري- أن يتم دمج هاتين الجهتين لتصبح جهة واحدة ويتم تسميتها بـ«وزارة الثقافة والتراث الوطني» تترأسها قيادة واحدة توزع الأعمال والمهام على هاتين الجهتين، وبذلك تقود هذه القيادة الثقافة والتراث في المملكة إلى آفاق أرحب وأوسع وأشمل.

ماذا بقي يا صديقي، بقي أن أعترف لك باعترافاتي التي تحدثت إليك عنها في أول المقال. أما اعترافي الأول: فأنا أعترف بأن فكرة دمج وزارة الثقافة والتراث الوطني وجعلها بهذا الاسم ليست فكرتي، وإنما هي تعود إلى وزير التربية والتعليم السابق الدكتور محمد الأحمد الرشيد، وقد قرأتها الأيام الماضية في كتابه عن مسيرة حياته ومسيرة التعليم في مملكتنا العظيمة والشامخة.

وبالمناسبة، لا أعتقد أن شخصا في السعودية أو الخليج مهتما بالتعليم العام والتعليم العالي، يطلّع على مسيرته رحمه الله، ولا يخرج بعشرات الأفكار والفوائد، ليستفيد منها في حياته العملية والتربوية، وأيضا في حياته العامة.

أما الاعتراف الآخر: فأنا أعترف أنني كنت في فترة من الفترات السابقة أميل مع رأي الدكتور غازي القصيبي، الذي يقول إنه لا يرى ولا يجب أن تكون للثقافة جهاز حكومي في الدولة. إلا أنني وبعد تأمل لما فعلته وتفعله رؤية 2030 في تغيير ثقافة المواطنين بشكل إيجابي جدا جدا، فيما يتعلق بجوانبها الثقافية في السنتين الأخيرتين، جعلني أعيد النظر مرة أخرى في رأيي السابق، إذ أقول الآن إن الجهاز الحكومي للثقافة قد يكون وجوده أساسيا في مرحلة من المراحل.

أما الاعتراف الأخير يا صاحبي: فإنني أعترف بأنني استشرت عددا من أساتذتي في مجال كتابة المقال، وأشاروا علي بعدم الإطالة، ولذلك، فإنني قررت أن تكون هذه المقالة هي آخر مقالاتي الطوال.