في كتابه (التراث والحداثة) يقول محمد عابد الجابري: «اللحظة الراهنة في تاريخنا العربي الحديث ما زالت لحظة نهضوية، ما زلنا نحلم بالنهضة، والنهضة لا تنطلق من فراغ، بل لا بد فيها من الانتظام في تراث. والشعوب لا تحقق نهضتها بالانتظام في تراث غيرها، بل الانتظام في تراثها هي».

كلام الجابري حول مسألة «الانتظام في تراث» واضح جلي لا يحتاج له توضيح، فهو دائما ما يطرح فكرته المهمة حول الانتظام في التراث، مؤكدا أن تجديد الفكر لا يمكن أن يتم إلا من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، فالإنسان بطبيعته مرتبط بماضيه بنفس الدرجة التي يرتبط بها بحاضره ومستقبله، ورفض التراث ككل هي عملية مستحيلة، فالتراث شئنا أم أبينا مقوم أساسي من مقومات الحاضر، فلا يوجد بداية من الصفر في أي مجال من المجالات.

وبما أنه لا يوجد بداية من الصفر، فالإنسان مخير بين طريقين، إما الانتظام في تراثه أو الانتظام في تراث أمم وشعوب أخرى. وقد فضلنا طرح اسم اللغوي الأميركي نعوم تشومسكي في مقالتنا اليوم كمثال حي على استمرارية الجدل حول التراث والتحديث، فهو صاحب الثورات اللسانية وصاحب المنعطفات الحاسمة في الدرس اللساني اللغوي، الذي يحظى بمكانة وتقدير وإجلال بين اللغويين العرب لم يحظ بمثلها في بلاده، فهو يحظى بمكانة وجدانية وروحية تستحق التأمل، فهو يملك مفاتيح العلم بين يديه، فكل أطروحاته مختومة بختم العلمية، فلا أحد يستطيع أن يعارض «عصمة العلم» التي أضفيت على أقواله.

قد يتساءل القارئ، وما علاقة تشومسكي بما قاله الجابري حول قضية «الانتظام في تراث»؟ وهل تشومسكي بشكل أو بأخر منتظم في تراث ما؟. لا نريد أن نقول إن تشومسكي منتظم في تراث سيبويه والخليل والجرجاني وابن خلدون وغيرهم، فهذه مسألة حساسة وخطيرة أن يظهر تشومسكي بمظهر المقلد والمنتظم في تراث، لذلك حرص اللغويون العرب دون بقية الشعوب على أن يدحضوا هذه التهمة الخطيرة، فكيف يكون تشومسكي وبكل ما يتمتع به من جلال علمي منتظما في تراث؟

لذلك لن نتهم تشومسكي بأنه منتظم في تراث سيبويه أو الجرجاني، ولكن هذه لا يمنع من القول إنه متورط في تراث آخر، وهو التراث الديكارتي. فكلنا نعلم أن رينيه ديكارت عاش في القرن السابع عشر، وكل أفكار ونظريات القرن السابع عشر تعتبر من مخلفات التراث السحيق. ودائما ما نقرأ أن أطروحات ديكارت لها أثر واضح في فكر تشومسكي، خصوصا فيما يتعلق بمسألة فطرية اللغة.

وكما يقال -والعهدة على الراوي- إن تراث ديكارت، وبالتحديد أفكاره حول فطرية الأفكار، كان لها أثرها في تشومسكي وأفكاره حول فطرية اللغة، وهذا يؤكد كلام الجابري وحتمية الانتظام في تراث، فقد انطلق تشومسكي من تراث ديكارت، مع أن العلاقة بين تراث ديكارت وفلسفة تشومسكي غير واضحة، وقد تكون غير موجودة، لذلك نحيل السؤال للمختصين: هل هناك علاقة بالفعل بين تراث ديكارت ونظريات تشومسكي اللغوية؟

وأنصار تشومسكي في العالم العربي عرفوا بين الناس بنبذهم التراث، وشغفهم الكبير بمواكبة العصر، باعتبار أن تراثهم العربي متخلف وعبء على الحاضر والمستقبل. ولكن رفض التراث بهذا الشكل قد يؤدي إلى مشكلة أخرى، فهم ومن أجل تغطية الفراغ الحاصل في الذاكرة فإنهم سوف يغطون هذا الفراغ بردفه بتراث حضارات أخرى، حضارات مختلفة. فهم بعد أن رفضوا تراثهم وجدوا أنفسهم منشغلين بتراث ديكارت وتراث دي سوسير، مما جعلهم يعيشون حالة ازدواجية ثقافية بعد أن عجزوا عن استيعاب هذا التراث الأجنبي وتوطينه.