شهدت الفترة الماضية سجالا حول قرار وزارة التعليم بربط علاوة المعلمين بالحصول على رخصة المعلم. ولن نتطرق هنا إلى مناقشة القرار، ولكننا سنتطرق إلى هذا المعلم العظيم الذي كان وما زال نورا أضاء لنا الطريق، ومهد لنا الصعاب وفرض علينا احترامه وتقبيل رأسه عند كل لقاء.

كان وما زال أسلوب المنهج العلمي يعتمد على اختبار قدرات الطلاب، من خلال المخرجات الدراسية المعتمدة على التلقين والتحفيظ وتحصيل المعلومات الثابتة من الكتب المقررة. وبناء على ذلك فإن الطالب يصل إلى الإجابة الصحيحة بالحفظ وليس بالتفكير، ولعل هذا يفسر ضعف القدرة على تنفيذ المهام البحثية والتجريبية، وهذا أمر لا يتحمله المعلم.

يقول الدكتور غازي القصيبي معلقا على كتاب إصلاح التعليم في السعودية، تأليف الدكتور أحمد العيسى، لو استعرضنا المشاكل الكبرى التي يعانيها المجتمع السعودي كضعف الإنتاجية وترهل الأداء الوظيفي في القطاعين العام والخاص، لوجدناها تنبع مباشرة من النظام التعليمي (وليس المعلم). ويرى القصيبي -رحمه الله- أنه لا بد أولا من تخليص النظام التعليمي من شوائب التقاليد والخرافات ليصبح تعليما عصريا.

وحقيقة فإنه مع برنامج التحول الوطني أصبح من السهل إصلاح النظام التعليمي، حيث تمت بلورة رؤية سياسية وإستراتيجية وطنية للنظام التعليمي. كذلك تم إلغاء التعارض بين تطوير العملية التعليمية وبين الثقافة السائدة التي كانت ترى تطوير التعليم خروجا عن المألوف. ويظل الدور على المسؤولين في التعليم لترجمة هذه الرؤية إلى واقع يهتم بالمعلم كأهم مقومات إصلاح العملية التعليمية، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة، وإعطاء الصلاحيات المالية والإدارية المستقلة لكل محافظة تعليمية أو منشأة.

ولعله من المناسب أن نذكر هنا مثالا على الاستثمار في المعلم ليكون هو الخط الأول في إصلاح المستقبل، ومحاربة الفساد وتحسين الجوانب الاجتماعية والصحية والفكرية والحضارية للأمة. فقد كانت سنغافورة تعيش في الستينات تحت وطأة الفقر وانتشار الجريمة، وانتشر الفساد ليشمل السلطات التنفيذية والقضاء، وقال الجميع إن الإصلاح مستحيل. فاهتمت سنغافورة بالمعلمين ومنحتهم أعلى الأجور، وكان على الحكومة أن تبني أجهزة الدولة، وعلى المعلمين أن يهتموا ببناء الإنسان. وأصبح لاحقا الحصول على مهنة التعليم هو الأصعب، فلكي تكون معلما لا بد أن تكون من المتفوقين لدخول الجامعة، وتنافس الجميع على هذه الوظيفة التي تدر دخلا جيدا، ولها قبول وقيمة اجتماعية. وأصبحت سنغافورة بفضل هذه الإستراتيجية في مصاف الدول المتقدمة في جميع المجالات.

أما رواندا التي سطرت نفسها في صفحات التاريخ كأكبر دولة شهدت إبادة جماعية، وذلك بسبب الصراع بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، حتى قاد البلد رجل اسمه بول كاجامي عمل على الوحدة الوطنية ومحاربة العنصرية، وإصلاح التعليم والقضاء، فأصبحت واحدة من أفضل الاقتصادات الناهضة في العالم.

وأخيرا إن التعليم له وجهان أحدهما المنهج والبيئة التعليمية، والآخر هو المعلم الذي يجب أن يتم تقديره وتحفيزه، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة له، ليقدم أفضل ما لديه في صناعة المستقبل، وإعداد الجيل القادر على الحفاظ على مكتسبات الوطن، وجعله في طليعة الأمم.