(لا زالت شعوب منطقتنا تتخذ من الأفكار والإيديولوجيات العقائدية سببا للصراعات فيما بينها، وتفرخ الأحزاب والمنظمات على ضوئها، بينما تضع دول العالم الحديث الاقتصاد محورا لتوجهاتها وصراعاتها، ومعظم أحزابها خدمية دون إيديولوجيات).

منذ القدم والاقتصاد هو المحرك الأساس في تحديد توجهات الكيانات السياسية وحتى الاجتماعية، وكل الحروب التي نشبت على مر التاريخ كان الهدف الرئيس وراءها هو الاقتصاد، وما تباين فيها كانت الأدوات والعوامل المجردة، فحتى الحروب المقدسة التي كان الدين السبب المعلن لها كان الاقتصاد هو هدفها الحقيقي وغايتها.

وفي العصر الحديث وبعد تعقيد المفاهيم الاقتصادية أصبح الاقتصاد متحكما ليس فقط في نشوب الحروب بين الدول والمجموعات وإنما حتى في نوعية العلاقات السياسية بينها.

الجهة الوحيدة التي شذت عن هذه القاعدة وانحرفت عن منطقية الأشياء هي الشعوب المسلمة في العصر الحديث، فمع بروز حركات إسلامية تدعو لتحكيم الشرع بين الشعوب الإسلامية وترفع شعار الإسلام هو الحل، أصبحت العقيدة المحور الرئيس للصراع لديها سواء بين هذه الحركات وحكومات المنطقة، أو بين هذه الحركات والقوى الدولية، أو بين هذه الحركات بعضها البعض، وتم توظيف الاقتصاد لديمومة هذا الصراع، مع أن المسلمين الأوائل وكما قلنا آنفا لم يغب عامل الاقتصاد عن فتوحاتهم الإسلامية.

إن السبب الرئيس لوضع العقيدة محورا في صراع الحركات الإسلامية مع الآخرين، هو افتقار القائمين عليها للحنكة السياسية اللازمة، وعدم الإلمام بتعقيدات العلاقات الدولية الحديثة، فهم لا يزالون يعيشون في متون الكتب القديمة، تقتصر مداركهم على العلوم الدينية التي تجعل من الفرد يفكر ببعد فكري واحد دون أخذ بقية الأبعاد بنظر الاعتبار. لذلك نرى أن تلك الأحزاب والحركات اُستغلت بسهولة من قبل القوى الدولية تحركها حسب مصالحها (بشكل مباشر أو غير مباشر) لضرب اقتصاديات دول المنطقة، واستنزاف طاقاتها المالية في صراعات لم يخرج منها أي طرف منتصرا لغاية يومنا هذا.

هناك نقاط معينة تميز الصراعات الاقتصادية في العصر الحديث عن تلك التي تكون أهدافها عقائدية، ومنها أن الصراع الاقتصادي تكون نتائجه مادية ملموسة (للطرف المنتصر)، بينما في الصراع العقائدي فإن الأموال توظف وتصرف لانتصار أفكار عقائدية غير ملموسة، وأن الحركات الإسلامية (السياسية) التي تختزن في ذاكرتها العقدية تسخير النفس والروح من أجل نصرة عقيدتها، لن تتردد في تسخير الاقتصاد من أجل تلك العقيدة، ولا ندري كيف يمكن لعقيدة أن تعتبر منتصرة على أشلاء اقتصاديات مدمرة ومتهالكة في مجتمعات جاهلة متخلفة.

نستطيع تخمين الدمار الذي لحق بالمنطقة جراء هذا الصراع العبثي، ابتداء من الأموال التي وظفت لتأسيس تشيكلات الإخوان في بدايات القرن الماضي، مقابل الأموال التي رصدتها الحكومات لتأمين أمنها الداخلي بالوقوف في وجهها.

إضافة للمبالغ التي وظفتها القاعدة وداعش لتنفيذ عملياتها الإرهابية، مقابل الأموال التي رصدتها دول المنطقة للوقوف ضد هاتين المنظمتين، والدمار الذي لحق بالمنطقة جراء تلك العمليات، تقابلها الأموال التي أنفقت على إعمار المناطق التي دمرتها عمليات تلك المنظمتين.. وأخيرا الأموال التي سخرتها إيران لتمويل أذرعها في المنطقة. كل هذه الأموال الضائعة تظهر لنا حالة الاستنزاف التي تسببت بها حركات الإسلام السياسي الدعوية منها والجهادية. ولنا أن نتخيل وضع هذه الدول لو أن هذه المبالغ الهائلة على مدى قرن من الزمن قد انفقت على تنمية وازدهار دول المنطقة.