في التسجيل المصور الذي نشرته إحدى الفتيات يوم عيد الأضحى المبارك الماضي أثناء خطبة صلاة العيد في أحد مساجد مدينة جدة، والذي يظهر فيه جزء من حديث الخطيب وهو على المنبر: «أن المرأة العفيفة تموت ولا تأكل بثدييها» في إشارة للنساء العاملات في محلات البيع، وتشبيههن ومن يتطلب عملها الوجود في مكان عام به الرجال والنساء بأنهن كبائعات شرفهن والعياذ بالله. هذا التشبيه المشين والتحريض على المرأة العاملة ساقه الخطيب من فكرة تحريم الاختلاط الأثيرة لدى المتشددين، ومن خلفيات فكرية لديه استخدمها من خلال ثغرة الخطابة المتاحة لكثير ممن يحمل فكرا متشددا، واعتلاء المنبر الذي سخره لرؤاه الشخصية بكل تطرفها وعدائيتها تجاه المرأة. هذا الأمر ليس بالغريب أو الشاذ لدينا، فمنذ عشرات السنين كانت المرأة وما زالت هي المادة الأولى والمفضلة للحديث عنها وحول شؤونها، وتصنيفها وتقييدها والتحريض على ما يحق لها من عمل وأساليب حياة، وقد تصل للتندر بها والاستخفاف والاستنقاص منها واعتبارها العدو الأول للمجتمع. هذا الحديث نسمعه على كثير من المنابر وفي مجالس الوعظ والخطابة، متخذا قالبا دينيا يأخذ المرأة لأقصى اليمين من التطرف والتشدد والإقصاء، وأصبحت الصورة النمطية للتعامل مع المرأة التي تسربت إلى وجدان الناس، وأصبحت قناعات وأسلوب حياة قد تؤمن به المرأة قبل أي أحد.

فنشأ جيل بأكمله يؤمن أن وجه المرأة عورة، وصوتها فتنة، وعقلها محدود، ودورها محصور بالزواج والإنجاب وخدمة الرجل، وعزمها ضعيف، ومشورتها نقص، كما أنها مجبولة على الخطأ وارتكاب الخطيئة ما لم يؤخذ على يدها وتعزل عن أي سياق لحياة طبيعية. وغيرها كثير من الآراء التي شُرعت عن طريق أدلة مختلفة وقصص مختلقة حتى أصبح الرجل يرتاب من التعامل مع المرأة، وأصبحت المرأة تؤمن بنقصها واختلافها عن الرجل، بل وتربي أجيالا أخرى بهذا الاختلال عن الفطرة السوية.

شاء الله أن يرزح مجتمعنا تحت هذه الأفكار الظلامية مدة من الزمن حتى قيض الله له أن يتخلص منها ويدفع المجتمع بالعودة للفطرة السوية والتعامل الإنساني بين مكوناته، ومنح الحقوق لأفراده على حد سواء، والتي تنبع من الدين الإسلامي القويم الخالي من تطرف الحزبيين، ولوثات المتشددين، ورجعية الأعراف والتقاليد الملتبسة بالدين. كان الجدل حول المرأة وقضاياها محسوما لدى رؤية القيادة الحكيمة التي عملت على ملف تمكين المرأة من حقوقها الأساسية، والتي كان آخرها التعديلات التي تمت على أنظمة وثائق السفر والأحوال المدنية ونظام العمل والتأمينات الاجتماعية. هذه الأمور التي تمنح المرأة استقلالها الشخصي والاقتصادي والاجتماعي، وتعزز مكانتها الإنسانية أمام نفسها والآخرين، انقسم الناس أمامها لعدة فئات: فئة ترحب وتشجع وتشارك الانخراط في خطوات التمكين والحصول على الحقوق، ولا تستنكرها لإيمانها بها وإيمانها بالتغيير الذي يحدث ومدى صدقه وإيجابيته، وفئة تلتزم الصمت والحياد، فلا هي قادرة على التغيير وليس لديها المقدرة على رفضه، وفئة أخرى تعلن الرفض والإنكار وتكرس الانغلاق في محيطها الخاص، وتنشر فكرها الرافض في أوساطها باستخدام نفس الأساليب القديمة مع إضافة يقين جديد «بأننا مستهدفون في ديننا ونسائنا»، و«أننا في آخر الزمان قابضون على الجمر» وما شابه من أساليب الاستعطاف أو التخويف. وهذه الفئة الأخيرة هي أخطرها على المجتمع في هذه الفترة وأجرؤهم على إعلان هذا الرفض دون منطق واحترام لحريات الآخرين وقراراتهم، فقد يعتلون منبرا لبث آرائهم، أو يتصدرون مجلسا اجتماعيا أو علميا، ناهيك عن استخدام التقنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل الجماعية التي يتلقفها البسطاء دون رأي أو تمحيص. هذا الأمر يصبح أكثر خطرا حينما يكون في مدارسنا وجامعاتنا وبين المعلمين والطلاب.

في حادثة إمام خطبة العيد الماضي بادر وزير الشؤون الإسلامية برفضه واستنكاره لما حدث، وتوضيحه أنه إمام ومكان غير مصرح لهما، وأن الوزارة ستتخذ الإجراءات القانونية اللازمة للتعامل مع الأمر، وهذا تصرف إجرائي حكيم وحازم من معالي الوزير، لكن التساؤل الملحّ: كيف يمكن التعامل مع مثل هذا الشخص وهذه الأفكار وما شابهها التي يحملها هو والمئات غيره في المساجد أو المدارس أو الوزارات والمؤسسات المختلفة والشوارع والمنازل؟ كيف يمكن أن ننجح في تغيير الصورة النمطية عن المرأة، سواء العاملة أو المختلفة في أي سياق عما اعتاده المجتمع؟

تغيير الأفكار أكثر صعوبة من تغيير الإجراءات والأنظمة والقوانين، وتغيير الأفكار لا يتطلب أن يتبنى الجميع فكرا واحدا أو رؤية متشابهة أو أسلوب حياة له ذات القناعة والإيقاع، بل أن يكون لدى الجميع حرية الاختيار، وأن يتفق الجميع على احترام خيارات الآخرين والإيمان بأحقية الفرد على حد سواء أن يعمل ما يشاء ضمن الأطر الشرعية والقانونية التي سخرت له. هذه القناعات لا يكفي أن تقوم بها وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد وحدها عبر إعفاء أو محاسبة إمام أظهرت لنا الصدفة رأيه، ولا عن طريق توحيد ومراقبة الخطب والدروس الدينية وحسب، بل تحتاج تضافر جهود وزارات أخرى معها كوزارة التعليم ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارتي الثقافة والإعلام وما يتبع كل هؤلاء من منظمات وجمعيات لوضع خطة عمل للتعامل مع الأفكار والحريات في المجتمع، وتصحيح ما يمكن تصحيحه من الخراب الذي مس عقول وقناعات البعض في مجتمعنا، والأهم تحقيق ما أكد عليه مؤسس رؤية المملكة 2030 ومجدد أحوالها ولي العهد محمد بن سلمان، حينما أكد في حديث سابق له: «أننا لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، سوف ندمرهم اليوم، لأننا نريد أن نعيش حياة طبيعية تترجم مبادئ ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم، ونسهم في تنمية وطننا والعالم وأننا سنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحديا، فنحن نمثل القيم السمحة والمعتدلة والصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجهه». هذا هو الرهان الأهم والتحدي الجدير بكل مؤمن بالتغيير من أفراد أو منظمات أن يخوضه ويسهم فيه لرفعة هذا الوطن الغالي، هذا التحدي قد يأخذ صورا عدة، منها مواجهة معاداة المرأة ليس على المنابر وحسب، بل في ذواتنا وقناعاتنا.

التحريض على المرأة والاستنقاص منها لم يُخلق فجأة ، بل هو نتيجة لتراث كرسته سنوات الصحوة، وسخرته في كافة مجالات الحياة وبالأخص في مناهج التعليم