ركزت رؤية المملكة 2030 بصورة أساسية، قبل القضايا الاقتصادية، على إحداث تغيير إيجابي كبير في بنية المجتمع السعودي، لتجاوز حالة السلبية وعدم المبالاة بالنسبة لشرائح المجتمع تجاه القضايا العامة التي تهم الوطن ككل، لذلك اهتمت في المقام الأول بزيادة نسبة مشاركة العمل التطوعي في المجتمع، وتشجيع الجمعيات والمؤسسات الأهلية على تفعيل أدواتها، وتطوير آليات عملها، وتحديث سبل أدائها، حتى تكون قادرة على أداء الأدوار المنوطة بها، ليصل تأثيرها إلى الشرائح التي تحتاجها.

ولم تكتف الرؤية الطموحة بمجرد الدعوة إلى تحقيق هذا الهدف النبيل، وتشجيع الجهات المعنية على القيام بما هو مطلوب منها، وذلك لأنها امتازت منذ البداية بالروح العملية، فسرعان ما تم الإعلان عن مؤسسة مسك الخيرية التي يرأس مجلس إدارتها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حتى تكون مصدر إلهام للمؤسسات والجمعيات المشابهة، من واقع الأساليب الحديثة التي اتبعتها، وابتعادها عن النمطية والروتين، وتطلعها إلى آفاق أرحب، واعتمادها على الخيال القابل للتحقق، والرغبة في الوصول إلى كافة فئات المجتمع.

ولا يختلف اثنان على أهمية الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في عالم اليوم، باعتبارها المؤشر الصادق على تقدم المجتمعات أو تخلفها، نسبة لقدرتها الهائلة على التغلغل وسط المجتمعات، وامتلاكها القابلية الكافية التي تمكِّنها من الوصول إلى الفئات المستهدفة في أسرع وأقصر وقت ممكن. لذلك باتت المؤسسات الدولية تعتمد في تقييمها للأوضاع الدولية على التقارير التي تصدرها تلك الجمعيات، لتحررها من أعباء الروتين الحكومي، واكتسبت مصداقية كبيرة، لدرجة أن الأمم المتحدة تعتمد تلك التقارير بصورة أسرع مما تفعله مع التقارير الحكومية. وقد تزايدت مؤخرا أعداد هذه الجمعيات غير الربحية في بلادنا، وأصبحت تقوم بأدوار جديدة وتسد احتياجات متعددة، لكنها -من وجهة نظري الخاصة- ما زالت تحتاج إلى توجيه وتنظيم، حتى لا تتقاطع المهام، وتكرر الأدوار بالصورة التي تقلل من تأثيرها وكفاءتها وسط المجتمع.

خلال العام الحالي استبشر الجميع بالإعلان عن موافقة مجلس الوزراء على إنشاء المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، واتخاذ ما يلزم في شأن تعديل نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية وغيره من الأنظمة ذات الصلة التي ستتأثر بإنشاء المركز ليكون مظلة تنضوي تحتها كافة المؤسسات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية وكافة الجهات ذات الصلة، بهدف تنسيق الأدوار، وتحديد الأولويات، وتقاسم المهام، وتنمية وتفعيل روح التطوع وسط المواطنين، بما يؤدي إلى تعزيز الروح الوطنية، إضافة إلى الإشراف على أوجه الدخل ومصارف الإنفاق، لضمان عدم تسرب أي مبالغ مالية أو عينية لمراكز الشر الإرهابية التي لا تريد لهذا الوطن وأهله خيرا. لذلك فإن الآمال معقودة على هذا المركز لتفعيل أوجه الخير التي يمتاز بها مجتمعنا، واستغلال الطاقات الشبابية الهائلة التي تميز مجتمعنا السعودي عن غيره، لا سيما أن التعداد السكاني الأخير أثبت أن أكثر من ثلثي السكان هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارها بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين، وهذه الطاقات كفيلة بإحداث نقلة هائلة في مجتمعنا، إذا ما وجدت التوجيه السليم والتدريب العلمي والعملي بالقدر الكافي.

ومثَّلت مشاركة الجهات الطوعية خلال موسم الحج الأخير ردا عمليا بالغا على كافة الأصوات التي ظلت خلال الفترة الماضية تتهم شبابنا بالتقاعس، وترمي مجتمعنا بالسلبية وعدم المبالاة، حيث تسابقت تلك الجهات في تقديم خدماتها لضيوف الرحمن، وتنافست في ذلك، وابتكرت أساليب لم تكن معهودة من قبل، بالدرجة التي نالت بها استحسان الجميع، وحصلت على إشادات واسعة، وقدمت بذلك صورة رائعة عن المجتمع السعودي، تبارت وسائل الإعلام العالمية في إظهارها وتسليط الضوء عليها، وأثبت المجتمع السعودي أنه بخير وقادر على تقديم الإضافة وإحداث الفارق في أوقات الأزمة، وأن شبابه يمكن أن يكونوا قدوة للمجتمعات الأخرى، فشاهدنا أولئك الأبطال وهم يرشدون التائهين، ويقدمون الماء للمحتاجين، ويسعفون المرضى، ويرشون الرذاذ على وجوه من أرهقتهم حرارة الشمس، يحملون كبار السن على أكتافهم، في عز الهجير وساعات الظهيرة، وواصلوا أدوارهم الإنسانية المشرقة دون كلل أو ملل، فاستحقوا الإشادة ونالوا الاستحسان نظير جهودهم الكبيرة.

لذلك كله، فإن أمام القائمين على أمر المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي مهمة سهلة ميسورة، وهي في الوقت ذاته شاقة وعسيرة، سهلة وميسورة بسبب وجود الكوادر البشرية الهائلة، وتوفر الرغبة الصادقة في تقديم كل ما يرفع من شأن هذا الوطن، والإمكانات الكبيرة التي سوف تعين هذه الكوادر للحصول على التدريب المتطور الذي يمكنها من القيام بواجباتها على النحو المطلوب، والتخطيط العلمي الذي وفرته رؤية المملكة 2030 لكيفية استغلال القوى البشرية الموجودة، بما يمكن أن يكون نبراسا وهاديا. وفي الوقت ذاته فإن هذه المهمة شاقة وعسيرة، كنتيجة لارتفاع سقف التوقعات، وزيادة آفاقها، بما يتناسب مع الطموح غير المحدود للقيادة الرشيدة التي تسعى بجد وصدق لخدمة هذا الشعب الأبي، وتقديم كافة ما يحتاجه، إضافة إلى تلبية متطلبات الطريقة المتميزة التي ينظر إلينا بها العالم من حولنا، والصورة الزاهية التي رسمها لنا المسلمون في كافة أنحاء العالم، بسبب الخدمات الجليلة المقدمة لضيوف الرحمن من الحجيج والمعتمرين والزوار، وهي صورة ناصعة البياض، لذلك فإن الحفاظ عليها يتطلب مزيدا من تفعيل دور الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وتقديم الدعم للمحتاجين من حولنا في أقطار العالم المختلفة، وهذا الدعم ليس بالضرورة أن يكون في شكل مادي فقط، بل إن الدعم الحقيقي يتمثل في تقديم عصارة التجارب وخلاصة الإسهام الإنساني، لتظل المملكة كما كانت دوما، مصدر إشعاع ثقافي واجتماعي، ومحط أنظار العالم من حولنا.