‏لم يبد معظم المراقبين والمحللين السياسيين دهشة أو استغرابا من الخطوة التي أقدمت عليها جماعة الحوثيين الانقلابية بتعيين سفير لها في طهران، بحسبان أنها في الأصل جماعة إرهابية خارجة على القانون، ولا تمتلك أي رصيد سياسي أو دبلوماسي يتيح لها الاطلاع على الكيفية التي تدار بها العلاقات الدولية، أو الاتفاقات التي تنظم عمليات تبادل الممثلين الدبلوماسيين بين الدول المختلفة، والضوابط التي تحكم عمل تلك الممثليات، كما لا تملك رصيدا أخلاقيا يتيح لها احترام الأعراف والتقاليد المتبعة عالميا والعمل بموجبها.

لكن وجه الدهشة أتى من قبول النظام الإيراني تلك الخطوة، واعترافه بممثل الجماعة الانقلابية، رغم علمه التام بعدم اعتراف المجتمع الدولي سوى بالحكومة الشرعية التي يقودها الرئيس عبدربه منصور هادي، والتي أتت وفق انتخابات شفافة استوفت الشروط الدولية ونالت بموجبها اعتراف كافة دول العالم ومؤسساته الدولية، ولكن يبدو أن الرغبة في تحقيق الكيد السياسي بأي ثمن - وهي إحدى سمات حكومة الملالي - دفعتها إلى تلك الخطوة الغريبة التي حتما سيكون لها ما بعدها من تداعيات دولية قد تمتد آثارها إلى نظام طهران نفسه، وتدينه بسبب الخرق الواضح للاتفاقات الدولية التي تنظم حركة العلاقات بين الدول.

ويعلم كل من لديه إلمام بسيط بالعلاقات الدولية وعلم السياسة أن اتفاقية فيينا التي تم إقرارها عام 1961، وصادقت عليها حكومات العالم، والتي تنظم عملية تبادل السفراء والممثلين، قد وضعت إطارا محددا وقواعد واضحة لا ينبغي تجاوزها أو المساس بها، وفي مقدمتها أن تعيين السفراء والممثلين الدوليين ينبغي أن يكون من سلطة شرعية تعترف بها المؤسسات الدولية، ولا يجوز لأي جماعة إرهابية استولت على الحكم بطريقة غير شرعية أن تقوم بتعيين ممثلين لها في بقية دول العالم، بل إن بعض الكيانات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي يرفض الاعتراف بأي سلطة أتت عن طريق انقلاب عسكري، ويرفض التعامل معها حتى تقوم بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.

وتعلم جماعة الحوثيين الانقلابية علم اليقين أنها لن تجرؤ على اتخاذ قرار بتعيين سفير لها في أي دولة من العالم سوى إيران، لأنها أتت بواسطة ذلك النظام الذي دعمها بالسلاح والمقاتلين حتى اغتصبت الشرعية واستولت على السلطة بالقوة، لكن بقية دول العالم لن تعترف سوى بسفراء الحكومة الشرعية، ولن تضيع زمنها في مناقشة أي خيار آخر.

ومهما كان الحال، فإن إقدام إيران على التجاوب مع خطوة الحوثيين أثار سخرية العالم واستنكاره في ذات الوقت، وأوضح بجلاء مدى الدرك السحيق الذي انحدرت إليه الأمور في طهران، ومقدار العزلة التي يعاني منها النظام هناك بسبب سياساته الخرقاء المزعزعة للسلم والأمن الدوليين، بل إن كثيرا من أعضاء السلك الدبلوماسي في طهران أعلنوا صراحة أنهم لن يشاركوا في أي فعالية تجمعهم بممثل السلطة الحوثية، لأن ذلك يعني اعترافا منهم بشرعيته، لذلك فإن النظام الإيراني سيجد نفسه في ورطة كبيرة عند تنظيمه لأي فعالية دبلوماسية، فإما أن يدعو ممثل الجماعة الانقلابية وحده ويستمرئ عزلته الدولية، أو يدعو بقية أعضاء السلك الدبلوماسي باستثناء سفير الحوثيين، وسيكون ذلك بمثابة اعتراف صريح منه بعدم شرعيته، وفي كلتا الحالتين فإن الدبلوماسية الإيرانية هي الخاسر الأوحد.

وإذا كانت السياسة في الغالب تدار بحسابات الربح والخسارة، والإيجابيات والسلبيات، فإن ما أقدمت عليه طهران لا يبدو فيه أي جانب للربح، فالنظام العالمي الجديد يوضح بجلاء كيفية تبادل العلاقات الدولية، لذلك فإن أي تجاوز لما تم التوافق عليه يكون خطوة متهورة لن تقابل إلا بالرفض القاطع. لكن من الواضح أن الأمور السياسية في إيران تتنازعها أكثر من جهة، وتتحكم فيها دوائر لا تملك من الخبرة ما يؤهلها للتعاطي مع مثل تلك القضايا، لذلك فإن من المرجح أن يكون القرار قد اتخذ بواسطة الحرس الثوري الذي بات يتحكم في الأمور السياسية والاقتصادية، ولا تجرؤ أي جهة على رفض قراراته أو مراجعة سياساته، وهو ما أورد طهران موارد الهلاك وجعلها موضع تندر وسخرية، لأن قراراتها غالبا ما تكون غريبة ومخالفة للأعراف والتقاليد الدولية بسبب عقلية الأشخاص الذين يتحكمون فيه ويملكون مفاصل قراره.

وربما يكون نظام الملالي قد أراد أن يعطي الخطوة التي أقدم عليها دلالة رمزية باعترافه بسلطة وكيله الحوثي، أو راوده الأمل في أن تحذو بعض دول العالم الأخرى نفس حذوه، لكن ذلك يبدو بكل تأكيد خيالا غير قابل للتحقق، وربما كان الأفضل لذلك النظام أن يسعى وراء حل مشاكله الدبلوماسية مع دول العالم المختلفة، فكثير من السفارات في طهران أغلقت أبوابها بعد أن قطعت دولها العلاقات مع النظام المارق، حتى التي لا زالت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية معها اضطرت إلى تخفيض مستوى تمثيلها وسحبت السفراء واكتفت بوجود بعض الموظفين الذين يقومون بتسيير الأمور الروتينية، نتيجة لإصرار النظام الايراني على التمسك بسياساته التي أفقدته علاقاته بدول العالم المختلفة، ووضعته في موقع الاتهام، وجعلته تحت الحصار الاقتصادي والسياسي، ولا سبيل أمامه للانعتاق من هذا الواقع المرير سوى بتغيير السياسات، ووقف البرنامج النووي المثير للجدل، والكف عن محاولات تصدير الأذى والقلاقل للآخرين، والالتزام التام بسياسات حسن الجوار، وعندها فقط يمكن للمجتمع الدولي أن يفكر في تغيير تعامله، وقبول انخراط إيران من جديد في محيطيها الإقليمي والدولي.