جميع مراحل توسعة المسجد الحرام وإضافة المرافق له اقتضت هدم الدور الملاصقة، ولم يلتفت أحد لأصحابها، وكان فيها دور كثيرة للصحابة، فهدم عمر الدور الملاصقة للمسجد حين وسَّعه، وكذلك عثمان بن عفان، وابن الزبير -رضي الله عنهم- وعبدالملك بن مروان، والمهدي بن المنصور في عصور مليئة بأهل العلم والفضل والحب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته وأصحابه.

وأما ما يتعلق بالبيت المنسوب إلى السيدة خديجة -رضي الله عنها- ودعوى أنه أصبح دورات مياه، فبالرغم من كون نسبته للسيدة خديجة لا تثبت، فإن مكانه الآن مصلى ضمن ساحات المسجد الحرام، وليس كما أفك الأفاكون، وهذا كلام الباحث العالم المكي أ. د. عبدالوهاب أبو سليمان -حفظه الله- عن كتابه [الأماكن المأثورة المتواترة في مكة ص155]، يقول: (موقع هذا المنزل المبارك في الوقت الحاضر في الساحة الشرقية، لدى المصباح الكبير مقابل باب السلام على بعد اثني عشر مترا في اتجاه الشمال نحو المدعى، حيث شاهدت مخطط هذا الموقع شخصيا بحضور أحد المسؤولين في مؤسسة ابن لادن مع كل من الدكتور عويد المطرفي، رحمه الله، والدكتور عبدالله شاووش في رمضان 1425/ 2004، فتبين الأمر على خلاف ما كان يعتقد البعض أن هذا المنزل يقع في إطار الميضآت).

وبهذا تندحض الفرية باتخاذ بيت خديجة -رضي الله عنها- ميضأة كما أفك الآفكون، مع التنبيه إلى أن شيخنا الدكتور أبو سليمان من القائلين بصحة نسبة البيت لخديجة -رضي الله عنها- وهو ما أختلف معه فيه.

ومما أؤيد به رأيي بعدم صحة نسبة البيت إلى السيدة خديجة -رضي الله عنها- أن أقدم المؤرخين ذكرا لهذا البيت وهما الأزرقي والفاكهي اختلفا فيه، فالأزرقي يجعله في بيوت بني عبدالمطلب كون النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم، والفاكهي يجعله في رباع بني أسد كون خديجة -رضي الله عنها- منهم.

ورباع بني عبدالمطلب شرقي الكعبة مما يلي الصفا إلى شعب ابن يوسف، ورباع بني أسد غربي الكعبة مما يلي الحجر حيث تفيء عليها الكعبة في الغداة وتفيء على الكعبة في العشي، حتى إن الأسدي كما قالوا: تطرأ عليه الحاجة وهو في الحجر فينادي جاريته فتبرز إليه من السطح، كناية عن قرب ربعهم من الكعبة.

والعجيب: أن المكان الذي يُزعم أنه موضع بيت خديجة ليس في مكان رباع بني عبدالمطلب عشيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يقول الأزرقي، ولا في موضع رباع بني أسد عشيرة خديجة كما يقول الفاكهي، بل أقرب ما تكون إلى رباع بني عبد شمس، حيث رباعهم شرقي الكعبة مما يلي المروة، ولذلك قرر معالي الأستاذ أحمد زكي يماني في كتابه عن بيت خديجة، رضي الله عنها: أن بيتها في رباع بني عبد شمس، وهذا غير معقول، إذ الأصل أن يكون بيتها في ربع قومها أو قوم زوجها، إلا أن يثبت تاريخيّا أنها اشترت بيتها من أحد بني عبد شمس، وهذا ما لم يُذكر.

كما أن الذي يُستفاد من جمع أقوال الأزرقي والفاكهي: أن معاوية -رضي الله عنه- اشترى دار خديجة وبناها مسجدا، وأقر بذلك أحمد زكي يماني في كتابه الآنف الذكر، والدار التي كانت قائمة وتنسب لخديجة -رضي الله عنها- لم تكن على هيئة مسجد، بل على هيئة غرفات.. مما يؤكد أنها ليست هي، لأنها لو كانت هي لكانت على هيئة مسجد.

وقد أورد هذا الاستشكال -أيضا- إبراهيم رفعت باشا في [كتابه مرآة الحرمين ص190]، حيث أشار إلى أن وصف تقي الدين الفاسي [تـ832هـ] لبيت خديجة في كتابه شفاء الغرام يختلف عما رآه هو عام 1318، وأن الفاسي جاء بصفته على أنه مسجد.

وأما القول بأن أهل مكة توارثوا الموقع كابرا عن كابر فغير صحيح لأمرين:

الأول: أن أهل مكة يغلب عليهم عدم الثبات والهجرة، حتى إنها تفرغ من الساكنين في حقب من التاريخ ويأتي الله بقوم آخرين، وهذه ثلاثة نصوص للأستاذ السباعي عن ثلاث حقب من الهجرات، والمقصود التمثيل فقط وإلا فالوقائع كثيرة.

النص الأول: ذكر السباعي في العصر العباسي الأول أن مكة أقفرت من أهلها، قال «والذي يبدو أن لثورات العلويين التي تحدثنا عنها في الفصل الخاص بالناحية السياسية وما نتج عنها من حروب وفتن أكبر الأثر في إقفار البلاد من أهلها وتأخر مقدراتها في العمران. [تاريخ مكة للسباعي 180].

النص الثاني: ذكر السباعي في العصر العباسي الثاني: وبدأ عدد السكان في مكة يقل في هذا العهد، فقد هاجر كثير من رجال العلم إلى أصقاع الأرض، وكسد سوق الأدب والفن الذي عرفناه في العهد الأموي وجزء كبير من العصر العباسي الأول، وتفرق أصحابهم في البلاد جريا وراء التكسب ورفاهية العيش.

وعرفت مكة في هذا العهد جاليات جديدة من الترك الموالي الذين كانوا يتبعون ولاة بني العباس مرة وينضمون إلى الثوار مرةً أخرى، إلى جانب جاليات من الفرس والبربر وبعض الأصقاع القريبة من بلاد العرب...» [تاريخ مكة للسباعي 206].

النص الثالث: ذكر السباعي نقلا عن ناصر خسرو في العصر الفاطمي: أنه هاجر في بعض سنوات هذا العهد نحو 35 ألفا من سكان مكة، ولم يزد تعداد القاطنين بها في عام 422 هـ عن ألفي نسمة. [تاريخ مكة للسباعي 246].

الآخر: أن تعظيم الأماكن وإقامة الشعائر التي لم ترد في السُّنة لم يعرفه أهل مكة إلا في العهد الفاطمي فما بعده، أما ما قبل ذلك فلم يكن أحد يحفل بهذه الأماكن التي لم يحفل رسول الله ولا صحابته بها، وهذا نص للسباعي يبين متى ظهرت البدع بمكة:

قال السباعي: «ولم تكن مكة تحتفل في هذا العهد بموالد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعض الصحابة، لأنها لم تعرف ذلك إلا في عهد الفاطميين، كما سيأتي ذكره في حينه» [تاريخ مكة للسباعي 210].

نصل من كل ذلك: إلى أن الموقع الذي يُزعم أنه بيت خديجة ليس ميضأةً الآن كما يتم زعمه، بل هو مصلى ضمن ساحات المسجد الحرام، كما أنه لم يثبت كونه بيت خديجة. وقد مرت مكة بعصور من فرض التشيع السياسي والتصوف السياسي يجعل استحداث القبور والمزارات أمرا قريبا وغير مستغرب.

قال العياشي [تـ1090هـ] وهو يُشعر بعدم صحة النسبة إليهم، «وكثير من هذه الآثار الشريفة والمشاهد المنيفة قد تطاولت عليها الأعصار ووجد التنصيص على اشتهاره في القرون الماضية من كثير من المؤرخين والمرتحلين، مع العلم بعدم اشتهارها في القرن الأول والثاني وما بقربهما» رحلة العياشي (359).

ولنعلم: أن الابتداع في الدين بسبب مثل هذه الأماكن لا يقتصر على العوام، بل يتبناه الفقهاء.

قال ابن الضياء الحنفي: «قال النقاش: يستجاب الدعاء إذا دخل من باب بني شيبة وفي دار خديجة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة، وفي مولد النبي -صلى الله ‌عليه ‌وسلم- يوم الإثنين عند الزوال». البحر العميق (2/115-116).

هذا، وأسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين وقادتهم إلى العودة إلى الإسلام الصحيح كما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكما فهمه عنه سلف الأمة.

الموقع الذي يُزعم أنه بيت خديجة ليس ميضأة الآن كما يتم زعمه، بل هو مصلى ضمن ساحات المسجد الحرام، كما أنه لم يثبت كونه بيت خديجة