كان مشهد عودة المعلمين إلى مدارسهم كفيلا بأن يثير عندي شجون الذكريات في ميدان التعليم، وأنا أردّد لأحدهم قوله: «ارجع زمان الأمس من صفحاتي، ما أجمل الأيام بعد فواتِ»، فلا أعتقد أن هناك حياة تحمل في تفاصيلها مزيجا من الحب والمشقة والمعاناة والسعادة، ومن عشق المهنة، ومن كثير من المواقف المضحكة والمبكية بكل ألوانها المفرحة والمحزنة التي يجدر تسجيلها في مذكرات كما هي حياة المعلم التي هي في رأيي حكاية ممزوجة بالألم والأمل، بالطبع ليس كل معلم سواء كان من جيل الأمس أو اليوم قد يقال عنه هذا الكلام، فقط يقال عن «المعلم المخلص والمؤثر» الذي انطلق في ممارسته لرسالته «كمعلم ومربٍ» وترك بصمة مؤثرة؛ لأنه أدرك في قرارة نفسه أنه يحمل أهدافا تربوية وتعليمية ومعرفية يحملها كرسالة، ولهذا كان لديه عزم على أن يحققها في أبناء مجتمعه، وينقشها على نفوسهم الغضة، فمهما لقي في سبيل مهنته لم يكن يهمه؛ لأنه يعلم أن أثر ما سيقدم سيبقى ما بقي الدهر، وكما قال أحمد شوقي «وكن رجلا إن أتوا بعده.. يقولون مرّ وهذا الأثر».

ولعله من نافلة القول أن أقول: إن حياة الرواد الأوائل من المعلمين حياة مختلفة أخرى، لا يمكن لنا إلا أن نقف على أقدامنا ونحن نتحدث عنهم وعن تلك الحقبة التي عملوا فيها، وما ذلك إلا لأنهم هم من رسم معالم الطريق في العمل المدرسي، وهم من ذاق معاناة العمل التربوي نتيجة للظروف الصعبة التي عاشوها، وهم يكتبون الأحرف الأولى في سطر البدايات في التعليم، في زمن كانت فيه المدارس تعاني من قلة الموارد المادية والبشرية لعدم وجود مداخيل للدولة كما هي اليوم الذي تغدق من خلالها على التعليم ومؤسساته، لكن الشهادة لله مما سمعته عنهم، ولكثرة ما فتشت في دفاترهم، وكتبت عنهم أنهم باختصار «جيل من ذهب»، جيل كان يتفانى ويتحامل على مشاق نفسه من أجل العمل، جيل كان بعضهم يقبل جدران المدارس حينما تخلو من طلابها حزنا على انتهاء العام، ولذلك من الظلم ألا يستحضر من ذكراهم عند الحديث عنهم إلا حديث «الضرب والعصا والفلكة» وتُنسى كل اللفتات الجميلة عنهم.

ولهذا إذا ما أراد المعلم اليوم أن ينجح في مسيرته العملية عليه أن يستشعر عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، وأن يعلم أن متعته في العمل تبدأ من نقطة تعميق الانتماء للمدرسة والعمل التربوي، ثم التركيز على الجوانب الإيجابية دون التوقف طويلا ًعند المواقف السلبية التي قد تستنفد طاقته في التفكير وتقلل من دافعيته للعمل، وأن يؤمن أن التخطيط للعمل هو وحده الذي يجعل مقاييس الشعور بالرضا في بيئته المدرسية، والمتعة فيما يقدم مع طلابه تبدوان في تفانيه في العمل ونجاحه؛ لأن التخطيط يجعل الرؤية والهدف والرسالة في التعليم واضحة المعالم أمامه، وأن يستمر في طلب المعرفة والاستزادة من المعارف ليطور من أساليبه وينمي قدراته ومهاراته.

وأنا أقول لعل المتأمل في سيرة أجيال المعلمين التي تعاقبت بعضها بعضا في ميدان التعليم سيجد في سيرهم، كيف كان إحساسهم بمتعة العمل ينطلق من نقطة الانتماء للمدرسة وحب المعرفة، فغالبية معلمي الأمس كانوا قارئين مستمعين للراديو لديهم مكتبات منزلية، كانوا مثقفين، فنجحوا رغم صعوبة البدايات التي عملوا فيها، والظروف التي كانت في زمنهم، لكنهم لم يسمحوا لها أن تعيق طموحاتهم، قبل أن يشهد التعليم الطفرة التي يعيشها «معلم اليوم»، طفرة الإمكانات المادية المدرسية، المباني المدرسية، الوسائل التعليمية الحديثة، الأجهزة المتنوعة، ووجود التقنية بين يديه، وما يوفره له الإنترنت من خدمات وتسهيلات تخدمه في عمله، وكذلك وجود عناصر بشرية تقوم ببعض أدواره من إشراف ومناوبة وتجهيز لقاعات الدرس، بخلاف معلم الأمس الذي كان عليه أن يقوم بكل شيء، وكان ذلك قدره ومع هذا صبر وأنتج حينما آمن بقيمة عمله.

ولعلي أتذكر «والذكرى للإنسان عمر ثان» لأُثير الشجن نحو الذكريات عند جيلي ومن سبقنا ومن أتى بعدنا، كيف كنا نعمل داخل المدرسة كفريق، يوم كانت السبورة السوداء ثم الخضراء التي نلقي عليها تحايا الصباح المدرسي، يوم كان عطر الطباشير يرسل رذاذه نحو أنوفنا وأعيننا، فلم يكن ليشبهه عندنا أي عطر باريسي اليوم، رغم أنه خلف لي ولجيلي أزمة «الربو» التي تقظ مضاجعنا كل ليلة لتذكرنا بعبق تلك الأيام، يوم كنا ننظف الفصول الدراسية بأنفسنا، ونحمل على أكتافنا كراتين الكتب الدراسية، يوم كنا نشارك طلابنا أحلامهم وحكاياتهم، يوم كنا نحمل «أكوام الدفاتر» إلى بيوتنا لنصححها دفترا دفترا، هذا دفتر للفصل وذاك للبيت، يوم كنا نعد كميات من الأسئلة للدور الأول والثاني وللدورين وللمكملين، يوم كنا نرصد الدرجات بقلم الحبر تحديدا في السجلات الضخمة «المسودة والمبيّضة» بمثابة «كمبيوتر ذاك الزمن» وكان الخطأ غير مقبول، وإن حدث فهذا يعني إعادة تسجيل الدرجات من جديد، يوم كنا نعد تحضير دروسنا بأنفسنا، ونخطها بأقلامنا كيلا يشرب طلابنا إلا من معين صاف كما عبر بهذا أحد المعلمين الرواد حينما سُئل لماذا تعد دروسك كل يوم؟، يوم كان المعلم فينا يقوم بكل الأدوار، فهو المدرس ورائد النشاط ومن يقوم بحصص الانتظار وبالإشراف اليومي والمناوبة، يوم كنا نعد الأسئلة على ورق الحرير الخاص بآلة «الاستنسل» بالقلم الذي يشبه الإبرة، ثم نقوم بطباعتها على تلك الآلة بواسطة «الهندل» فكانت تمرغ ملابسنا وأيدينا بأحبارها، يوم كان للمعلم هيبته وحضوره ورزانته وثقافته، وكان لمجلس الآباء أثره في تواصل البيت بالمدرسة.

وللحديث عن التعليم وأهله بقية.