كلمة الدولة بعيدا عن خيالات المسلسلات المصرية القديمة التي تصور المسلمين بثياب وعمائم بيضاء وكفار قريش بثياب وعمائم سوداء، أقول بعيدا عما انغرس في ذهن الطفل من صور ذهنية عبر هذه المسلسلات وتحكمت به في الكبر، وصولا للحقيقة التاريخية عن مفهوم الدولة الذي كان سائدا في الفترة الأولى، ليفاجئ البعض وجود الصحابة في المدينة بلا عملة مالية خاصة بهم، فلم تكن معهم سوى دراهم ودنانير دولتي فارس والروم، ولم يكن مع عمر بن الخطاب عند وصول الغنائم إلا تدوين الدواوين بالفارسية، ولم تتطور الكتابة العربية بشكلها الحالي الذي نقرأ به الآن إلا بعد عقود بعيدة من الفترة النبوية الأولى، ولهذا فمحاكمة كلمة (الدولة) في القرون الوسطى وفق معايير الدولة الحديثة، ظلم وقفز بهلواني على التاريخ.

وهذا القفز البهلواني لا يستمرؤه أحد كاستمراء حركات الإسلام السياسي له، ولهذا فكل أدبيات الحاكمية الخاصة بحركات الإسلام السياسي تتعارض مع تقاليد الدولة العربية في القرون الوسطى المأخوذة من تقاليد الدولتين الإمبراطوريتين آنذاك، الفارسية والرومية، والعقل المسلم آنذاك عمل على تخريجها فقهيا تحت عنوان (الأحكام السلطانية) الذي أسس لحكم الأقوى كما هو عند الروم وفارس تحت مسمى (فقه الغلبة).

ولو كان حسن البنا أو سيد قطب في الفترة الأموية أو العباسية أو ما قبلهما فلن يكونا سوى في صف (الخوارج) الذين أشغلوا رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب بعبارتهم (نريد تحكيم كتاب الله)، والمعنى الباطن لدعوتهم نزع الحكم من يد الخليفة إلى أيديهم، وتتكرر الأدبيات القروسطية منذ ألف سنة على يد الإسلام السياسي حتى الآن.

من يقرأ في تاريخ سقوط الدولة العثمانية يكتشف أن الوجدان المسلم آنذاك أربكه سقوط (الخليفة العثماني)، بينما التي ثبتت هي حركات إسلام التحرير التي نشأت أثناء الحكم العثماني ضد العثمانيين، لأنها ليست في أحد أوجه تكوينها البنيوي إلا (حركة تحرر وطني عربي) من المستعمر التركي الذي استباح الأرض والعرض، ومنها دعوة محمد بن عبدالوهاب، بينما الإسلام السياسي الذي ظهر بعد سقوط الدولة العثمانية وعلى رأسها دعوة حسن البنا، فلم تكن إلا نوستالجيا عمياء لملء الفراغ الروحي في الوجدان السياسي لعموم المسلمين من الهند وحتى المهجر في أميركا الشمالية، وها هم الآن تراهم في إسطنبول يمارسون القفز البهلواني في الحنين القديم لعلهم يجدون في إردوغان الخليفة المحتمل، بينما جاء الملك عبدالعزيز في البدء بصفته (الإمام) بعد سقوط الخلافة ليبني دولته وجدانيا وفق معطيات يقبلها البدوي والحضري على حد سواء، فلما استتب له الأمر، واستقرت له عرى الدولة، انتقل إلى مرحلة وجدانية أكثر حداثة ليخرج دولته من سقطات الخليفة العثماني الذي عجز عن فهم لغة القرن التاسع عشر الذي كان إرهاصا لمعطيات القرن العشرين، بينما الملك عبدالعزيز واءم بين المعطيات في فترة حكمه في بناء معنوي متماسك في الوجدان الشعبي، وصولا إلى اجتماع عدد من أبناء الوطن حكى تفاصيلهم الدكتور عبدالله مرعي بن محفوظ في صحيفة «المدينة» قبل سنوات، حيث اقترحوا اسم (المملكة العربية السعودية) ليصدر الأمر الملكي بالموافقة، مستفتحا بعبارة (نزولا على رغبة الرأي العام.... إلخ) كما ورد في الأمر الملكي المنشور بصحيفة أم القرى في عددها (406) يوم الجمعة 22 جمادى الأولى 1351 الموافق 23 سبتمبر 1932.

بعد كل هذا يأتي أحمق يتبعه ألوف ويقول بالحرف الواحد (المنظمات الدولية، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة، هي عدوة للإسلام والمسلمين)، العجيب أن مثل هذه العبارات تطرب متوسطي الذكاء فأقل، بينما الأذكياء عندما ينزلون مثل هذه العبارات التعبوية على أرض الواقع يكتشفون أن الرجل يتمنى أن تصبح الدولة الحديثة كميليشيا طالبان بلا غطاء أممي يسترها أمام العالم ويجعلها فاعلة وذات دور وسيادة معترف بها، بدلا من حماقة طالبان، إذ قاتل الأفغان ضد السوفييت والآن يغازلون روسيا وتغازلهم للحد من النفوذ الأميركي في بلادهم، والإسلاميون لا يريدون سماع مثل هذه الكوميديا السوداء، كأنما هي شاهد على حماقتهم العقلية التي أرادوا تصديرها إلى بلداننا عبر أحداث سبتمبر وصولا إلى ما سمي بالربيع العربي، فمن أقصى العداء لأميركا إلى أقصى المغازلة لها أثناء حكمهم لمصر، وصولا إلى حضن حزب العدالة الآفل في تركيا، أو لاجئين سياسيين في (بلاد الكفار) التي هيجوا العوام بكفرها وعداوتها للإسلام كما يصفون ثم يستقرون بها آمنين مطمئنين، فعن أي عداوة سوى عداوة مكاسبهم السياسية بخطاب ديماغوجي دوغمائي يسرق قلوب متوسطي الذكاء فأقل، وما أكثرهم في كل بلد يتحدثون، وأعان الله السياسي على مراعاة الأغلبية من (متوسطي الذكاء) كما تصفهم الكتب الحديثة، أما الكتب القديمة التراثية فتصفهم بالدهماء والعامة، وكل العقلاء يميزون هذا في قراءة تاريخ الدهماء مع مفكري العالم من هيباتيا حتى فرج فودة.