منذ أن بدأت فعاليات مواسم السعودية، ونحن نشاهد ونلمس ما تحويه من تنوع وإبهار، وتجديد على فكرة السياحة وصناعتها في السعودية. وكان لموسم السودة أثره الأكبر في نفوس أبناء المنطقة الذين أعادوا اكتشاف الإمكانات –أو بعضا منها- التي تحتويها المنطقة وتنعم بها.

السودة التي تعد أعلى منطقة على سطح الأرض في شبه الجزيرة العربية، السودة التي تمتاز بمناخ مختلف عن كثير من دول العالم خلال أشهر الصيف، حيث تهبط درجات الحرارة إلى 10 درجات مئوية، مع هطول للأمطار وانتشار للضباب، لم تكن بمعزل عن السياحة المحلية أو الخليجية، كانت ولا تزال مقصدا للكثيرين خلال الصيف، رغم محدودية البنى التحتية والمنشآت التي تقدم الخدمة للسائحين بشكل مقبول. النقص في عدد الفنادق في عسير وقلة جودة أماكن الإيواء، مع ارتفاع أسعارها، جعلا أهالي القرى في السودة يؤجرون منازلهم أو أجزاء منها خلال الصيف، خاصة للقادمين من الخليج. لهذا ففكرة النزل الريفي، كانت تطرح بالمنطقة منذ عشرات السنين، وجاء موسم السودة ليعزز الفكرة بشكل أوسع، من خلال الإعلان عن المساكن التي استوحت تصميمها من بيئة المنطقة الجبلية، والتي تستهدف في عمليتها التسويقية خلال هذه المرحلة المستثمر الأجنبي، الذي عادة يبحث عن التفرد في الفكرة مع الأصالة ولمسات التجديد. ولعل هذا يعطي سكان المنطقة الدافع للمشاركة في استثمار ما لديهم من مساكن ومزارع، بطرق تتواكب مع المرحلة، كما شاهدنا في عدد من النماذج القليلة التي حولت المزارع والحصون التراثية والمنازل الشخصية، إلى مقاه ومطاعم لاستقبال الزوار، وتدار عادة بجهود شخصية من أصحابها.

الارتفاع الشاهق في السودة ومناطق أخرى في عسير، كالحبلة، يعد فرصة كبيرة لتنظيم منافسات الرياضات الجبلية، التي تعتمد على الارتفاع وقوة الرياح وصعوبة التضاريس، كالطيران الشراعي والهايكنق وسباق الدراجات الجبلية، وموسم السودة وضع خطوات على العتبة الأولى للمهتمين والمستثمرين بهذه الرياضات، لتكون متاحة على مدار العام وليس فقط خلال فترة محدودة منه. ولعل الرياضات البحرية تنضم لهذه القائمة قريبا، مع استغلال لسواحل عسير البكر الممتدة بما يقارب 150 كيلو متراً، والصالحة للغوص وركوب الأمواج والمراكب الشراعية والتزلج على الماء.

واكب موسم السودة فعاليات مهرجان رجال الطيب في قرية رجال ألمع، التي تختلف في الارتفاع والمناخ عن السودة رغم قصر المسافة بينهما. المهرجان الذي بدأ منذ منتصف أغسطس حتى نهايته، أقيم في مركز القرية، حيث القرية التراثية ذات البناء العمراني المميز. وقف مهرجان رجال الطيب خلال عرضه على قدمي الزي التراثي والرقصات الشعبية، وبغض النظر عن عدم اتفاق الكثير من سكان منطقة رجال عليهما، إلا أن الاعتماد عليهما، وما يتصل بهما وحسب، فيه اختزال كبير لتراث وأصالة وعمق المكان، وأعني تحديدا من الناحية الفكرية والعلمية والعمرانية. فقد كان بالإمكان التركيز على العلماء النوابغ الذين امتازت بهم محافظة ألمع منذ مئات السنين، ورحلاتهم، أو القادة السياسيين وتأثيرهم في مسار تاريخ المنطقة، وذلك على شاكلة ما تم استعراضه في سوق عكاظ للشخوص المؤثرة قديما، وأن تكون هناك عناية خاصة بالعمران الفريد في المنطقة، بورش علمية وعملية يستقطب لها باحثون ودارسون من جامعات مهتمة حول العالم.

كانت عناية القائمين على موسم السودة بالنباتات والأشجار المعمرة في منطقة الفعاليات ملحوظة، حيث لم يتم قطع أي شجرة. هذه العناية أجزم أنها أتت من ملاحظة تنوع الغطاء النباتي في السودة والحرص على الحفاظ على المسطحات الخضراء من أي عبث. ولكن برأيي أن من أهم المزايا –وجميعها مهم- التي نالها موسم السودة خلال الشهر المنصرم وفي تجربته الأولى، هو الاستثمار البشري في أبناء المنطقة بالذات، حيث تعاملنا بشكل مباشر مع كثير من العاملين بالفعاليات، من شابات وشباب المنطقة وبأعمارهم الصغيرة وخبرتهم القليلة، فكانوا في قمة الرقي والمبادرة والإخلاص والمهنية التي تبهج القلوب. هؤلاء الشباب هم الذراع الأهم لأي نجاح في المنطقة، وعملهم المباشر في مدينتهم وقراهم وجبالهم، يمنحهم الإيمان بأهميتها وأهمية الحفاظ عليها والاستثمار فيها وإبراز هويتها. روحهم المبادرة والمتحفزة للعطاء طيلة شهر كامل بالرغم من الأجواء الباردة وهطول الأمطار وبعد المسافة التي تمتحن صبرهم وثباتهم، كانت دليلا على أن ما دعا إليه سمو ولي العهد عند إعلان رؤية المملكة 2030 من أهمية الاستثمار بالعنصر البشري، قد أوتي أول ثمرة له، ونأمل أن يعزز بطريقة عملية بالاهتمام بمجالات السياحة والفعاليات والتنظيم، من خلال أكاديميات متخصصة أو أقسام جديدة في جامعة الملك خالد، تواكب هذا الحراك البشري المتطور.

موسم السودة في سنته الأولى لم يكن تجربة ناجحة ومميزة وحسب، بل بوابة نحو قادم أفضل لمنطقة عسير بكافة جهاتها، وتطور يواكب المرحلة في بناها التحتية خاصة الطرق والمواصلات. ونقلة نوعية في فهم صناعة السياحة واستثمار المكان وهويته.

الارتفاع الشاهق للسودة ومناطق أخرى في عسير، فرصة لتنظيم منافسات الرياضات الجبلية، التي تعتمد على الارتفاع وقوة الرياح وصعوبة التضاريس، كالطيران الشراعي والهايكنق وسباق الدراجات الجبلية، والموسم وضع خطوات على العتبة الأولى للمهتمين والمستثمرين بهذه الرياضات