حملت الأوامر الملكية الأخيرة إضاءات واضحة وإشارات ذات مضامين عميقة، كشفت عن عزم المملكة مواصلة مسيرة التحديث التي تنتظم كافة أرجاء الوطن، والإستراتيجية المتكاملة التي تتبعها لتحقيق أهدافها المنشودة في آجال محددة بدقة، بحيث يتم الانتقال إلى تحقيق هدف ما بمجرد الانتهاء من التحقيق الذي سبقه، بما يتناسب مع رؤية المملكة 2030.

وبداية أثبتت تلك القرارات بما لا يدع مجالا للجدل أن الحرب التي أعلنتها القيادة الرشيدة على الفساد تتواصل على جميع الأصعدة، ليس فقط بتشديد الرقابة وتعزيزها، بل بتجديد الأدوات وتطوير الآليات، وهذا واضح جليا من التعديلات الأخيرة، حيث تشير تصريحات معالي رئيس هيئة مكافحة الفساد الأستاذ مازن الكهموس إلى الاهتمام بالتخلص من البيروقراطية، واتباع أساليب حديثة تشمل تجديد أدوات الرقابة وتفعيل آليات التحرك وأساليب الاستقصاء، على أن تكون رشيقة وقادرة على التحرك بسرعة أكبر لمكافحة الفساد ومنع وقوعه من الأساس، وجلب المتورطين إلى ساحات العدالة ومنصات القضاء.

كما أفصح رئيس الهيئة عن التوجيه الواضح الصريح لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالإبلاغ الفوري عن كافة الجهات والمسؤولين غير المتعاونين، مما يثبت أنه ليس هناك أحد فوق القانون أو أكبر من المساءلة، وأنه لن يتم التغاضي عن أي مفسد - كائنا من كان - وفق التعبير المشهور لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ومع أن هناك العديد من الإحصاءات والتقارير التي أصدرتها الجهات المعنية تشير إلى انحسار نسبة الفساد وهدر المال العالم خلال الفترة الماضية بمعدلات لافتة، إلا أن القرارات الجديدة يتوقع أن تؤدي إلى جعل محاربة الفساد ثقافة مجتمعية أكثر من كونها مهمة حكومية.

كذلك فإن القرارات الجديدة أكدت بوضوح استمرار النهج الذي اختارته المملكة بتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، وحرصها على أن تكون كافة الإجراءات الحكومية والرسمية متوافقة مع المعايير الدولية المرعية، وهناك إشارة لا ينبغي تجاهلها وهي أن القرارات ذاتها التي عنيت بتعزيز قيم النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد المالي والإداري تزامنت مع الإجراءات الرامية إلى حماية الحقوق الأساسية للإنسان وضمانها، وهي دلالة واضحة المعاني والمضامين.

أما التغييرات التي شهدتها هيئة حقوق الإنسان فإنها تصب في الاتجاه ذاته، إلا أن الواقع الذي تعيشه بلادنا، والهجمة الإعلامية الشرسة التي تتعرض لها من دوائر معادية يتطلبان المزيد من تفعيل أدوات العمل، وبذل جهود إضافية بطرق أكثر فعالية ووسائل أشد تأثيرا، حتى نشرح للعالم حقيقة واقعنا، وما يتمتع به المواطن السعودي والمقيم من حقوق مكفولة يقرها النظام الأساسي للحكم، وتضمنها القوانين وتحرسها المؤسسات العدلية التي تتمتع بالاستقلالية التامة، وكلي ثقة في أن معالي الدكتور عواد العواد يضع كل ذلك نصب عينيه.

كذلك حملت القرارات تأكيداً واضحا على أن المملكة في طريقها لتصبح إحدى الدول المؤثرة فيما يتعلق باقتصاد المعرفة، ومواكبة الثورة العلمية والتقنية التي يشهدها العالم من حولنا، وذلك من خلال الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وهذا المجال لم يعد ترفا أو خيارا كما يتصور البعض، بل أصبح ضرورة لا غنى عنها لكل دولة تريد أن تحجز مكانها في خارطة المستقبل القريب، وتنشد تحديث اقتصادها من الشكل التقليدي إلى آفاق جديدة، وبإمكاننا استغلال الطاقات العلمية الوطنية المتوفرة في هذا المضمار، فهناك العديد من الشخصيات السعودية الفاعلة في أكبر أسواق التقنية في العالم، ولها إسهامات عالمية مشهودة، وقد أثبتت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة الأميركية هذه الحقيقة، حيث التقى في وادي السليكون الشهير بالعديد من العلماء السعوديين العاملين هناك، واستمع إلى مرئياتهم وتصوراتهم لتحقيق الثورة العلمية في المملكة.

أما فصل وزارة الصناعة والثروة المعدنية عن وزارة الطاقة فهي خطوة موفقة وصائبة لاعتبارات عديدة في مقدمتها زيادة الاهتمام باستغلال الإمكانات الهائلة التي تذخر بها بلادنا في مجال المعادن، والقدرات الضخمة التي تملكها، وهي كفيلة بإحداث طفرة متكاملة تسهم في مضاعفة الناتج القومي إلى إضعاف مضاعفة، وتقلل في ذات الوقت الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وفق ما ترمي إليه رؤية المملكة 2030، كما أن استغلال تلك الثروات يحمل بعدا آخر بالغ الأهمية هو الإسهام الفاعل في تنمية المناطق التي توجد بها تلك الإمكانات، وتنويع مصادر الدخل، وتحقيق مبادئ التنمية المستدامة التي تضمن عدم استنزاف الثروات، وتمكين الأجيال المقبلة من الاستفادة منها بالصورة المثلى.

هذه الإجراءات أتت في توقيت مناسب ودقيق، تشهد فيه بلادنا طفرة حقيقية ونهضة كبرى في كافة المجالات الاقتصادية والتنموية، وسوف يترتب عليها بكل تأكيد المزيد من الازدهار وزيادة القدرة الشرائية وارتفاع المداخيل، ولن يكون لتلك الجوانب تأثير إيجابي على حياة المواطن ما لم يتم استئصال بؤر الفساد واجتثاثها، بما يضمن أن تنعكس الجهود الرامية إلى تطوير هذه البلاد ونهضتها خيرا ونماء على المواطن الكريم. لذلك فإن المطلوب الآن من أفراد المجتمع هو التفاعل الإيجابي مع هذا التوجه، ليس بمجرد التأييد والإشادة، بل بتحويله إلى ثقافة مجتمعية كاملة، مع الاهتمام بتوعية الطلاب والشباب، بحيث نضمن أن أجيالنا المقبلة ستكون محصنة ضد الفساد، ولن تتسامح مع من يقترفونه، لأنهم يعتدون بصورة مباشرة على حقوقهم، ويحرمونهم من التمتع بما وهبه الله سبحانه وتعالى بلادهم واختصها به، فكل الإجراءات الحكومية لن تكون كافية لتحقيق ذلك الهدف ما لم يرافقها تفاعل شعبي، بحيث يكون المواطن سندا لقيادته وعونا لها في الإبلاغ الفوري عن كافة الممارسات السالبة.