قد يبدو السؤال سهلا للوهلة الأولى، لكن الموضوع أعقد مما تتوقع وغريب بعض الشيء. قد يقول أكثركم إن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وهذا صحيح، لكن لماذا المال زينة؟ والأهم ما هو أهم من المال في الدنيا؟ ولماذا نريد أبناء؟!.

الإجابة فيها انعطافة حادة مهمة، سأذكرها في آخر المقال، لكن دعونا قبلا نذهب تاريخيا إلى الوراء منذ بدء الخليقة. هل سألت نفسك لماذا يحب الرجل المرأة الجميلة؟ ربما لأنه كان سابقا الإنسان القديم في تفكيره البسيط، يعتقد أنها قادرة على حفظ نسله، أي أن الجمال بالنسبة له، هو الخلو من الأمراض والعيوب، لذلك معايير الجمال تختلف عبر العصور، فربما السمينة كانت مطلوبة لأنها دليل الصحة، وربما تغير للبيضاء لتحسين النسل لأن الجلد مراءة الصحة. الرجل لم يكن يبحث عن الجمال الجسدي، بقدر ما يبحث عن الوعاء السليم في نظره الذي يقوده للأهم لديه وهو الخلود، أي خلود نسله، وما أدراك ما الخلود!

اكتشف الإنسان بطبعه الأناني، أن أهم شيء لديه هو الخلود، لكن لا يوجد خلود في الطبيعة، لذلك استعار بدلا من ذلك بقاء نسله أو جزء منه أكثر زمن ممكن، وأن ذلك يحدث من خلال زرع نسله في بيئة يأمل أن تكون صالحة لاستمرار ما تبقى منه، وهذا قانون الطبيعة في المملكة الحيوانية. والإنسان القديم راقب الحيوانات، فالحيوانات تبذل المستحيل لبقاء النسل، ولا تعتمد على اختيار الجمال، بقدر اختيار الأصح والأنسب لبقاء النسل أو الحفاظ على جزء من الحمض النووي الوراثي، وقد يقول قائل إن الإنسان مجبول على حب الجمال، نعم لكن أي جمال تعني؟ الجميل لك قد يبدو غير جميل لغيرك والعكس، بل غريزة الإنسان مجبولة بنفسه الأنانية على البقاء على الأرض، سواء حيّاً أو بعد موته!.

حسب مثلث ماسلو الهرمي، فإن الحاجات الأساسية هي الحاجة الفيزيولوجية أولا، لكن أغفلنا أن الحاجة للبقاء والخلود تبقى حتى بعد الموت. إذن أنت تريد أبناءك لكي يحملوا جيناتك أو حمضك النووي، لبقاء أثرك أكبر مدة على وجه الأرض. طبعا مع أسباب أخرى مثل القوة والتفاخر والغذاء والعناية بك، لكن انظروا على المستوى البسيط، عند البدو لما أحدهم يتأخر بالزواج، أهله يقولون له (نبغى يجيك عيال علشان يشيلون اسمك)، لم يقولوا «علشان عزوة أو علشان يعتنون فيك بالكبر»... إلخ، بل بفطرتهم ذهبوا للسبب الأهم، وهو بقاء جيناتك ونسلك وذكرك في الأرض، أو ما يسمى الخلود.

الآن نرجع لسبب المقال وسؤال العنوان عن المال، وسنربط لاحقا لماذا ذكرت هذه المقدمة عن الخلود. المال يحتاجه الإنسان من أجل الحاجات الأساسية، كالأكل والشرب... إلخ، وأيضا لأمور أخرى مثل القوة والنفوذ والتقدير، لكن السبب الرئيس هو الحصول على الخلود الوقتي لصحته ونفسه، ومن خلال اختيار الوعاء الأفضل في نظر الإنسان القديم لحفظ النسل والخلود، وهي المرأة الخالية من العيوب، والتي عليها تنافس من الرجال الآخرين (طبعا هذه نظرة تاريخية للمرأة، ولكن المرأة على العين والرأس وأعتقد أنها ظلمت تاريخيا، فهي عماد وأساس أي مجتمع بشري)، وأنت تحتاج المال أيضا لكي تضمن على الأقل وقتيا سلامة الأبناء الذين يحملون نسلك الوراثي من خلال المال. ألا تلاحظون أن نظام الوراثة متشابه إلى حد ما في كل عصور التاريخ ومختلف الحضارات، من الأمازون أقصى غرب الأرض، إلى الأبوجني أقصى الشرق؟. إن القاعدة العامة هي، الأب يورث أبناءه الغريزة الأساسية هي محاولة الخلود والحفاظ على حمضه الوراثي من خلال نقل المال للأبناء، لربما تزيد فرص بقائهم في الأرض، أي بقاء حمضك الوراثي!

لماذا الشخصيات التاريخية، سواء شريرة أو خيرة، لم تنجب أو لم تهتم بالإنجاب ورعاية أبنائها كما يجب!، لأنهم اعتقدوا أنهم بلغوا الخلود من أفعالهم وأحداثهم التاريخية. هتلر لم ينجب، الإسكندر الأكبر لم يهتم، لأن هدفهم الأكبر، كان الخلود عبر التاريخ كأعظم القادة!.

عند البدو مثل يقول (النار ما تورث إلا رماد!)، لكن الحقيقة أن المسألة مختلفة عن ذلك، عندما يعتقد الرجل أنه أنجز أو يحاول أن ينجز الخلود لاسمه، فإنه لا يهتم بالطرف الآخر من المعادلة، ألا وهو بقاء الاسم من خلال الأبناء، وليس بسبب أنه مشغول. وبالمقابل المتعارف عليه والأسهل للبشر العاديين للبقاء وخلود الأثر هو الإنجاب.

أعترف أن سبب مقالي اليوم مختلف عما ذكر، لكن له علاقة قوية به، وهي قصة أحد رجال الأعمال السعوديين، وهو رجل كبير وليس شابا، في رحلة طويلة جدا، بدرجة سياحية، ولم يمنعه غناه من التقتير على نفسه. لا أعرف سبب هذا البخل! البعض من الجهلة يقتر على نفسه وعلى عياله، ولما يموت لا يذكرونه بدعاء، بل على العكس يدعون عليه. ليس هو الذي حافظ على خلود اسمه، ولا هو الذي عمل خيرا لآخرته ولا هو حافظ على صحته. لا صفة تهدم إرث وخلود الرجل، مثل البخل حتى لو كانت بقية الصفات حسنة، ولا شيء يحسن السيرة مثل الكرم.

أمي دائما: (ما فيه شيء يغطي عيوب الرجال مثل الكرم لو هو كله عيوب)، وفعلا شاهدناها على الواقع، الكرم يجلب الخلود والسؤدد مهما ضعفت بقية الصفات. الغنى لا أهمية له إذا ما كنت كريما على نفسك أولا وعلى البقية ثانيا. بعض الشياب الأغنياء سفيه، لم تعلمه السنون والحياة، الأولويات. الإنسان بعد سن معينة يضع المال درعا لصحته وراحته. البعض يتحجج ويقول (حلال عيالي)، يا عزيزي صحتك وعافيتك وسمعتك بالدنيا، وبعد الموت أهم من الحجج الواهية، وعيالك لهم رب يرعاهم. لو أن أخانا الغني جدا، الذي ذكرته راعي الدرجة السياحية، جاءه مرض الدرجة السياحية وتخثر في الدم من حشره بالكرسي وأصابته جلطة، هل هذه الأرصدة المليونية ستفيده؟.

مرة خرجنا من مؤتمر في إحدى الدول الأجنبية، اثنان من كبار رجال الأعمال في البلد وأنا، مررنا بأحد المقاهي، وطلبنا ساندويشات لأننا لم نكن جائعين، والفاتورة كانت بسيطة، فإذا بأحدهما يقول، نتقاسم المبلغ! استغربنا وفجعنا بصاحبنا، كنا نحسبه يمزح وإذا به جاد!. رفضنا مطلقا ودفع أحدنا الفاتورة. علاقتنا بالرجل أصبحت سطحية، وصرنا نتحاشاه. وأذكر سألني، ماذا تنصحني به؟ فقلت له ازرع شعرا واهتم بنفسك. لا أطالب أحدا أن يهدر أمواله، لكن إذا الله أعطاك، أظهر أثر نعمته عليك وعلى أهلك، عز نفسك ثم عز نفسك، فمن لديه ملايين ومن لديه مليارات متساوون، يأكلون نفس الأكل، لن يحضروا أكلا خاصا من القمر لصاحب المليارات، ويركبون السيارات نفسها، وينامون بحجم السرير نفسه، لا يوجد سرير 20 مترا في 20 مترا خاص بالمليارديرات. الفرق مجرد أرقام في البنك. السبب الأساسي للغنى هو بقاء أثرك أكثر زمن ممكن على الكرة الأرضية من خلالك أو خلال نسلك. إذا اهتممت بنفسك أولا واهتممت بعيالك ثانيا في حياتك، فإن الله سيبارك لك فيهم، وسيبقون ويبقى أثرك من خلالهم. المال وحده ليس سبب خلود وراحة أبنائك، بل البركة أهم. وإذا كنت كريما مع نفسك وعائلتك ومن حولك، سيطرح الله البركة إن شاء في نسلك، وسيبقى أثرك وخلودك. وللتذكر سبب وجودك على الأرض هو عبادته سبحانه، ومن صفاته الكريم فاقتدي بخالقك.