يحدثونك عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فتظن أن المسألة طارئة مع نشوء حركات الإسلام السياسي التي أحالت حتى المساكن والشقق المفروشة إلى (شقق مفروشة إسلامية) وغير إسلامية، لكنك تتفاجأ بنص يبين فيه صاحبه في فهرس كتابه ما يأتي: (المسألة الرابعة: أنه ليس كل العلوم لها أصل في القرآن كما زعم كثير من الناس، مع مناقشة الشارح لهذه النقطة)، إذ يقول في متن كتابه ما نصه: (أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين: من علوم الطبيعيات، والتعاليم والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح -إلى أن يقول- وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) وقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ونحو ذلك.... فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين

ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية)، انتهى كلام المؤلف الذي قد يظنه البعض من رجالات هذا العصر، الذي امتلأت فيه وسائل التواصل بأصحاب هذه الدعوى التي ظهر أن لها جذورا تتجاوز حركات الإسلام السياسي في هذا الزمن لتعيدنا إلى سبعة قرون للوراء، فالنص المنقول موجود في الجزء الثاني من كتاب الموافقات في أصول الشريعة للإمام أبي إسحاق الشاطبي (توفي سنة 790هـ)، لنكتشف أن محاولة تحويل النص القرآني إلى مرجعية للعلوم العقلية والنقلية قد بدأت منذ سبعة قرون، وكما أن كثيرا من مفكري النهضة يعيدون انحطاط العالم الإسلامي إلى بدايات كتاب تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي، وعجز ابن رشد في كتابه تهافت التهافت عن إيقاف هذا المزاج الغنوصي، الذي يريد الخروج من إطار العلوم العقلية والنقلية، إلى إطار المفاهيم الدلالية للتأويلات الغنوصية التي لا يحدها حد ما دامت اللغة تتسع بقدر اختلاف البرادايم الدلالي لكل كلمة عبر العصور والأزمنة.

نقول إن عجز (ابن رشد الأندلسي) المتوفى سنة (595هـ) عن إيقاف هذه الغنوصية الفكرية، تأكد أكثر وأكثر من خلال كتاب الموافقات للشاطبي، الذي اجتهد للقفز (وفق مرحلته التاريخية) إلى مناطق جديدة من فقه المقاصد الشرعية، التي تعيد للشريعة موقعها الطبيعي المناسب لها قبل سبعة قرون، والمثير أن الشاطبي أيضا كان أندلسيا من أهل غرناطة، فكأنما آخر معاقل النظر العقلي في العلوم الشرعية كان في الأندلس، بينما بدأت في بغداد مؤشرات الانحطاط الفكري مع ضعف حركة الترجمة بعكس ما كان في الأندلس.

كل ما يطرح في هذا المقال يحتاج نظرا بحثيا يتجاوز التقميش والملاحظات العابرة التي أوردتها هنا كإضافة لمباحث انشغلت بما طرحه ابن رشد، متناسية ما تلاه من محاولات الشاطبي ترشيد ما يسمى (أسلمة العلوم)، والوقوف في وجهها مع توسيع دائرة المقاصد، وغلق باب الحيل قدر المستطاع. ومع كل هذا فلا بد أن نشير إلى أن الشاطبي كان مفارقا لزمنه بهذه المباحث التي لم تلفت انتباه أقرانه في عصره كما يجب، والدليل أنها رغم تقدميتها (آنذاك) إلا أنها ابنة عصرها، فكان يرى مثلا في كتابه أن من مكارم الأخلاق عدم قتل الحر بالعبد، وغيرها مما ليس مقبولا في هذا الزمن، لكن اعتباره لها من (مكارم الأخلاق) يجعلها في منطقة قابلة للتفاوض النظري ما بين تحسين وتقبيح عقلي.

كل الأدبيات التي طغت على عقول كثير من المسلمين تحت مسمى (أسلمة الأشياء)، ليصبح هناك (أدب إسلامي، شعر إسلامي، قناة إسلامية، ساعة إسلامية... إلخ)، كلها مزيج من أزمات الهوية التي تتجه لها الشعوب في فترات ضعفها، كأحد مظاهر الهوية المتورمة، والباقي مزيج من معادلات إسلام السوق الذي اقتحمته الرأسمالية، واستثمرت فيه كل معطيات (الأسلمة) التي بثها الإسلام السياسي، وصولا إلى البنوك الإسلامية، التي لا تختلف عن البنوك التقليدية في شيء سوى في تفاصيل وحيل (شرعية) ليس المسلم في حاجتها بقدر حاجته إلى تخفيض الفائدة المترتبة على القرض البنكي، سواء كانت باسم الإسلام أو باسم المصرف.

محاولة تحويل النص القرآني إلى مرجعية للعلوم العقلية والنقلية بدأت منذ سبعة قرون، كما أن كثيرا من مفكري النهضة يعيدون انحطاط العالم الإسلامي إلى بدايات كتاب تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي، وعجز ابن رشد في كتابه تهافت التهافت عن إيقاف هذا المزاج الغنوصي