لم تضع المملكة وقتا طويلا بعد تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي استفزت مليار ونصف المليار مسلم، والتي هدد فيها بابتلاع معظم أراضي الضفة الغربية وغور الأردن، إذا ما تمت إعادة انتخابه خلال الانتخابات المقبلة، والكشف عن المزيد من نواياه الاستعمارية وخططه، فسرعان ما دعت الرياض إلى عقد اجتماع استثنائي لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في جدة، لاستعراض آثار تلك التهديدات واتخاذ موقف عربي وإسلامي موحَّد تجاهها. وترتيب المواقف وتحديد كيفية الرد. هذا الموقف السريع غير المستغرب هو استمرار لمواقف المملكة السابقة في الاهتمام بنصرة الشعب الفلسطيني وحرصها على ضمان حقوقه الشرعية التي يعترف بها العالم أجمع.

الاجتماع الذي عُقد يوم الأحد الماضي بحضور لافت جاءت نتائجه بقدر الحدث، وبحجم الغضب الذي أثارته التصريحات الإسرائيلية غير المسؤولة، لذلك خرج الاجتماع بتوصيات واضحة، أكدت الرفض الإسلامي الكبير لأي محاولة اغتصاب جديدة للأراضي العربية، وتجديد رفض التعديات السابقة، وشدد على أنه لا يمكن تحقيق السلام بدون إرجاع الحقوق السليبة للشعب العربي المسلم، وإزالة المستوطنات التي أقيمت على أراضي الضفة وبقية الأراضي العربية، وأن ما تقوم به إسرائيل من محاولات لفرض الأمر الواقع لن يكون له تأثير على الحقائق الثابتة ولن يكون له تغيير ذو مغزى.

كذلك خرجت توصيات الاجتماع بتأكيد الموقف العربي الثابت من استشراف فرص السلام، وتأكيد أن كلمة السر تكمن في التمسك بحل الدولتين، وأن الكيان الإسرائيلي الغاصب لن يكون بإمكانه العيش بسلام دون القبول بمبادرة السلام العربية، وإعادة ما اغتصبه من أراض، وأن العرب والمسلمين لن يكون بمقدورهم التحلي بالمزيد من الصبر إذا ما واصلت تل أبيب السير في ذات الطريق العدواني.

ذلك التلاحم الكبير بين مسؤولي الدول الأعضاء في المنظمة أكد التعاطف العربي والإسلامي تجاه الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة، والدعم غير المحدود الذي تجده، باعتبارها قضية المسلمين والعرب المركزية التي تحظى بإجماع كامل، والنقطة التي تتلاشى فيها الخلافات وتتوحد الرؤى.

وإن كانت كافة الدول العربية والإسلامية تحتفظ بتلك المكانة لفلسطين، فإن الموقف السعودي يعتبر بكل المقاييس هو الأبرز، فقد أعلنه وأرساه الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - منذ توحيد المملكة، حيث وضع قضية فلسطين في مقدمة أولوياته، وجعلها شغله الشاغل، وقدمها على ما سواها، وأجرى الكثير من المواقف التنسيقية مع قادة بقية الدول العربية والإسلامية، وهو الموقف ذاته الذي سار عليه أبناؤه الملوك البررة من بعده، حيث لم يبخلوا على قضية المسلمين المركزية بالدعم السياسي في كافة المحافل الدولية، وظلت المملكة ولا تزال في مقدمة الدول الداعمة للشعب الفلسطيني الشقيق.

مخرجات الاجتماع الاستثنائي جاءت ملبية لتطلعات ورغبات الشعوب العربية، وهذا النجاح الكبير يعود إلى دقة التحضيرات التي سبقت الاجتماع، والجهود الكبيرة التي بذلتها السلطات السعودية، والتي لم تترك شاردة أو واردة للصدفة، فكل شيء كان محسوبا بدقة متناهية.

اللافت في الاجتماع أن معظم الوزراء العرب أشاروا في كلماتهم إلى أن ما تقوم به تل أبيب من انتهاكات بحق الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم، وقتل أبنائهم، وهدم منازلهم ومصادرة الأمل من قلوبهم يعد هو المحرك الأكبر للكيانات الإرهابية، ويمنحها مبررات البقاء، ويمدها بالمتطرفين، حيث تستغل تلك التنظيمات الصعاب التي يعيشها الفلسطينيون، وما يواجهونه من اعتداءات على أيدي جنود الاحتلال لتجنيد المتطرفين من الشباب المسلم، وذلك باستغلال مشاهد الدماء العربية وهي تسيل على أرض فلسطين، وتتمكن بذلك من التغرير بالبسطاء، فتجندهم في صفوفها، بذريعة أن ما يقومون به من أعمال إرهابية يصب في خدمة الإسلام والمسلمين.

كذلك تفعل إيران ذات الشيء، وليس في ذلك غرابة، فقد اعتادت استثمار آلام الشعب الفلسطيني، والتكسب من المأساة التي يعيشها، وانتهاز سقطات حكومة الاحتلال واعتداءاتها بمسارعة قادتها إلى إطلاق تصريحاتهم وادعاء التمسك بمقاومة إسرائيل، رغم إدراك الجميع أن ذلك هو أبشع أوجه الاستغلال لجراح الشعب العربي المقهور، فطهران لم تقدم لشعب فلسطين أي دعم حقيقي، سواء أكان ماديا أو سياسيا، بل أدمنت إذكاء نار الفتنة بين الفلسطينيين، وكان لها النصيب الأكبر في استمرار خلافاتهم الداخلية عبر دعم حركة حماس بالسلاح، وتحريضها على مواصلة اختطاف قطاع غزة، ورفض أي محاولة لتحقيق الوفاق الوطني.

المؤسف هو أن تصريحات نتنياهو العدوانية أتت في وقت يسعى فيه العالم أجمع إلى إكمال مهمة القضاء على تنظيم داعش الإرهابي بعد هزيمته في سورية والعراق، ومساعي اجتثاث فلوله والقضاء على كل خلاياه النائمة، وهي مهمة لم تتحقق إلا بعد بذل جهود مضنية، وفقدان العديد من الأرواح والدماء. كما يترقب الجميع مشروع السلام الذي تنوي الحكومة الأميركية الإعلان عنه، وتجري محاولات حثيثة لتشكيل موقف عربي وإسلامي موحّد لضمان انتزاع أكبر قدر من المكاسب للشعب الفلسطيني.

لذلك فإن على كافة دول العالم - وبالأخص الكبرى وذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي - إذا ما أرادت لتلك المساعي أن تؤتي أكلها وأن يتحقق السلام في العالم أن تقوم بخطوة عملية، وموقف أكثر قوة يردع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، ويكبح جماحها، ويوقف ممارساتها المتهورة التي تدفع العالم بأسره نحو مزيد من التوتر. فلا مجال لحسابات سياسية خاصة أو مزايدات، أو بحث عن مكاسب آنية، فما أنجزه المجتمع الدولي بالقضاء على شبح الدواعش وقرب نهاية كابوسهم تهدده تلك التصرفات غير المسؤولة، فهي تمنح قوى الإرهاب فرصة العودة إلى المسرح من جديد، بشكل قد يكون أكثر دموية وأشد بشاعة.