أطلَ علينا القرن الحادي والعشرين بقوى دافعة للتغيير تتصدرها العولمة والتقدم التكنولوجي والانفجار المعرفي الهائل، مما جعل من إصلاح التعليم ضرورة، ليتكيف مع تلك المستجدات، ويواكب روح العصر، ويحقق الرؤي الوطنية، ويلبي تطلعات القيادات التعليمية والطلاب وأولياء الأمور، والمعلمين، وينسجم مع احتياجات القطاعات الخاصة، والمؤسسات التنموية ولابد أن تُبلور تلك الرؤى والتطلعات في وثيقة رسمية تحمل المرتكزات الرئيسة لإصلاح التعليم وتكون الإطار العام والنبراس الذي تسير على شعاعه الجهود المبذولة نحو إصلاح التعليم، بدلا من السير بشكل عشوائي مبعثر وغير مدروس فيؤدي إلى هشاشة البرامج التعليمية وخططها ومبادراتها.

والدول المتقدمة تشرع في إصلاح التعليم عندما تدرك أن نظام التعليم تعثر عن تلبية طموحات المجتمع، أو كبا دون تحقيق خطط الدول ورؤاها السنوية، أو أخفق في سد احتياجات سوق العمل لضعف في مخرجاته، ساعتها ترفع تلك الدول نذر الخطر، فالتاريخ خير شاهد على ذلك بالتجربة الأميركية عندما أعلن الرئيس جورج دبليو بوش عام 2002 عن مشروع إصلاحي للتعليم تحت مسمى (No child lift behind). انطلق هذا المشروع الإصلاحي من مرتكزات كان من أهمها تحسين معرفة القراءة والكتابة من خلال وضع القراءة من الأولويات، وتحسين نوعية المعلمين، وتشجيع المدارس الآمنة للقرن الحادي والعشرين، وأخيراً تشجيع الحرية والمساءلة. إن حلم الإدارة الأميركية من وراء سن هذا القانون هو نهضة التعليم من الكبوة التي مر بها في الماضي والمحاولة الجادة في تقديم تعليم عالي الجودة لكافة أطياف المجتمع من أجل مستقبل أميركا الاقتصادي، فالهيمنة الاقتصادية تنطلق من التعليم القائم على تزويد الفرد بالمعارف والمهارات لتصنع جيلاً يملك التميز والابتكار، وهذا هو السبيل الأمثل إلى النجاح في الاقتصاد العالمي.

ولا يغيب في هذا السياق استحضار التجربة السنغافورية حول التطور الذي مر به نظام التعليم خلال العقود المنصرمة، حيث مرت سنغافورة بمتغيرات مرحلية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي كان التعليم حاضراً بقوة، للاستجابة لمتطلبات كل مرحلة ابتداء من مرحلة النزعة للبقاء، تلتها مرحلة النزعة للكفاءة، ثم مرحلة النزعة لاكتساب القدرة، وانتهاء بمرحلة النزعة للقيم. فكل مرحلة من تلك المراحل كان التعليم يخدم التطلعات الوطنية وفق أهداف وخطط ومناهج تعليمية تخدم توجهات الدولة آنذاك، لأجل ذلك نجح التعليم في الاستجابة لتلك المراحل المتعاقبة حتى أهلَ قوى بشرية مسلحة بالعلوم والمهارات التي تُمكِن للجيل موطئ قدم في سوق العمل.

إن من واجبي الوطني استعراض مسيرة إصلاح التعليم في السعودية، حيث مرت بعدة تجارب ابتداء من مشروع تقويم التعليم، مروراً بمشروع الملك عبدالله رحمه الله لإصلاح التعليم، وانتهاء بمشروع رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على النفط كمحرك رئيس للاقتصاد، وسيكون البديل هو تطوير الكوادر البشرية وتأهيلهم تأهيلاً نوعياً يتناسب مع المرحلة المقبلة. لذا ركَزت رؤية السعودية 2030 على إصلاح التعليم، من تطوير أهدافه وخططه وبرامجه ومناهجه التعليمية، وتنويع إستراتيجيات التدريس. وقد أكدت وثيقة رؤية السعودية 2030 على الكثير من المفاهيم المغيبة عن التعليم، وصححت بعض القناعات المغلوطة فيه، وجسَرت الهوة ما بين واقع التعليم والآمال المنوطة به.

فالتعليم وفق رؤية السعودية 2030 لم يعد من أجل الشهادة فحسب، فهذا الهدف الذي يتطلع إليه الطلاب أصبح متعارضاً مع عصر التسلح العلمي والمهاري والسباق التكنولوجي، بل ستتغير تلك القناعة لديهم ليصبح التعليم عاملا مهما في تأهيليهم لمواصلة مسيرة التنمية المستدامة، وبناء المجتمع والارتقاء باقتصاد الوطن وسد حاجات السوق ومتطلباته. حيث نصت الوثيقة على ذلك «سنسعى إلى سد الفجوة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل، وتطوير التعليم العالي وتوجيه الطلاب نحو الخيارات الوظيفية والمهنية المناسبة».

لم تكتف وثيقة الرؤية السعودية 2030 بتقديم تلك الوعود الوردية، بل رسمت خارطة طريق تحدد معالم المرحلة القادمة التي سيكون التعليم فيها شريكاً قوياً في بناء اقتصاد الوطن، وقدمت إستراتيجيات تكون جسراً نحو الوصول إلى مرافئ الأحلام، فاعتمد مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ثلاثة عشر برنامجاً لتحقيق الرؤية السعودية 2030، من بينها ستة برامج تمس صميم نظام التعليم، أُعتمدت لها خطط ومبادرات تهدف للارتقاء بجودة العملية التعليمية، لتتواكب مع روح العصر وتنسجم مع مخرجاته، ومن أهم تلك البرامج ومبادراتها برنامج تنمية القدرات البشرية، وبرنامج جودة الحياة، وبرنامج تعزيز الشخصية الوطنية، وبرنامج التحول الوطني، وبرنامج الشركات الإستراتيجية وبرنامج التخصيص.

لقد قدمت الرؤية السعودية 2030 كل مبادرة ستحقق تطلعاتها، واعتمدت على قيم الشفافية والمحاسبة لضمان نجاح تلك المبادرات التي ستكون قنطرة النجاح لتحقيق حلم رؤية السعودية 2030. لذا تبقى على قيادات التعليم العالي والعام بناء خطط تشغيلية لتفعيل تلك المبادرات والبرامج، لنصلح بذلك برامج التعليم وخططه ومناهجه التعليمية، ولدي أمل كبير معقود بهذا الشعب الأبي الذي وصفه عراب الرؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قائلا: «همة السعوديين مثل جبل طويق، ولن تنكسر إلا إذا انهد هذا الجبل وتساوى بالأرض»، ونحن سنعمل جاهدين لنكون عند حسن تطلعات القيادة بنا لتحقيق حلمنا الوطني في مستهل 2030.