خلال السنوات الثلاث الماضية فقط، دخلت المملكة في عملية تحول كبيرة وغير مسبوقة، تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولم يكن لهذا التحول أن يحدث لولا القوة في اتخاذه والقدرة على اجتياز المعيقات التي قد تواجهه والمقاومة المباشرة وغير المباشرة التي قد تظهر من وقت لآخر، قوة من صاحب القرار قبل أن تكون ممن يمسهم هذا التحول.

هذا المسير نحو اجتياز التحول التاريخي الذي تشهده المملكة لم يعد خيارا تتوقف عنه منظومة الدولة بمؤسساتها وهيئاتها وكياناتها المعتبرة التي يقوم بها ويشرف عليها ويشارك بها أفراد ينبغي أن يكونوا بذات الانسجام والتناغم والطموح لهذا التغير. وتبقى للأفراد في المجتمع الذي قد يكون شكّل لهم هذا التغيير صدمة ما، يبقى لهم حرية القبول أو الرفض، ما دامت خياراتهم تدور في دائرة الحياة الشخصية جدا.

الثقافة ركيزة مهمة في هذا التحول الوطني الكبير الذي تعيشه المملكة، فتحتُ مظلتها برزت عدة مجالات كانت مغيبة تماما تحت وطأة سطوة الصحوة وأفكارها الإقصائية، والبعض الآخر يناضل خجولا حتى استطاع أن يكوِّن له كيانا وتكوينا يخصه. في تلك الفترة التي كانت تشهد سجالا بين الرفض والقبول لأفكار المثقف قبل كيانه استطعنا أن نميز من كان له إيمان بأهمية الثقافة ودورها في صناعة المجتمعات المتحضرة وإبراز صورتها وهويتها ومدى تأثيرها على الفرد قبل أي أحد آخر.

ملحمة الأوديسا التي كتبها الشاعر الإغريقي هوميروس في القرن السابع قبل الميلاد كانت عن قصة البطل أوديسيوس (أو كما يعرف أيضا بأوليس) ورحلته المليئة بالعجائب والمخاطر والأساطير عقب هزيمة حرب طروادة ومحاولة العودة لمنزله على مدى عشر سنين. من ضمن هذه الأساطير اللافتة في تلك الرحلة كانت أثناء إبحاره لجزيرة كابري، وهناك في بحارها توجد السبرينات -أو السيرينات- وهي نوع من عرائس البحر لهن أصوات فاتنة وغناء ساحر عذب لا يقاومه من يسمعه فتجذبه إليه ويبقى أسيرا لهن مدى الحياة. وحتى يقاوم أوديسيوس هذا الفخ الساحر ولا يخسر بحارته ورحلته، وضع في آذان البحارة الشمع حتى لا يصل لهم صوت الغناء الفاتن فيهلكون، أما هو بروحه المغامرة لم يرد أن يفوّت على نفسه متعة الاستماع إلى هذا الغناء وتلك الأصوات الساحرة، وفي نفس الوقت لا يريد أن يخسر رحلة العودة إلى دياره ومعركته أمام الأساطير، لهذا أمر بحارته أن يقوموا بربطه على صارية السفينة لينال لذة الاستماع دون فقدان الغاية.

رغبة أوديسيوس المترنحة بين ركوب موجة الإبحار وبين الاستماع لأصوات السبرينات، وقراره أن يوثق نفسه إلى صارية السفينة تتقاطع كثيرا مع كثير من بعض شخوص مجتمعنا بمختلف توجهاتهم، خاصة أولئك المهتمين بالثقافة. فهم بين أن تتجاذبهم غواية «سبرينات» الجديد وبين ما يحملونه من تراكم ماضوي يقيدهم على سارية من الوصاية الثقافية والاجتماعية. فعين لهم على هذا الحراك الجاد والساحق لكل معيق ومتأخر لا يواكب غاية التحول، وعين على البقاء في دائرة الراحة والقبول الذي قد يقدم لها قرابين من التنازلات التي لا يشعر بها مع تهادي السفينة. فهو حين يتباهى بتعامله مع نساء منزله ويظهر صورهن برفقته يظن أن هذا شأن ثقافي يزيد رصيده من التقدير والرضا، وحين تنشر صورها أمام مكتبات عريقة وركام كتب عالمية تظن كذلك أن الثقافة صارت قبضة يمينها، وغير ذلك من نماذج تحزن أكثر مما تضحك وهي تنسب تصرفاتها الشخصية أو نشراتها الفضائية المترنحة بين النقد الساذج والتسطيح الفارغ إلى الحراك الثقافي.

المثقف -مع اختلاف تعريف هذه المفردة على مر العصور- لا يختبئ خلف مستحقات ليست له، ولا يستعرض ذاته بما يملكه غيره كنسب قبيلته أو وجه فتاته أو انتصارات أصحابه، ولا يجعل منها خطا ينطلق منه نحو فضاءات تخص الثقافة التي ينبغي أن تكون همًّا وانشغالا وبحثا وتطويرا وتمكينا.

قبل أن يصل أوليس إلى بحر السبرينات كان أسيرا لدى مخلوقات السيكلوب، وحينما سأله بوليفيموس عن اسمه لأنه يحب أن يعرف أسماء الأشخاص قبل أن يقتلهم، قال له أوليس إن اسمه «لا أحد»، وهو لم يكذب لأن هذا معنى اسمه، لذا حينما فقأ عين السيكلوب وفر هاربا سمع النداءات من خلفه تقول إن «لا أحد آذاني». كل محب وفخور بهذا التحول الوطني وكل مهموم بهذا التحرك الثقافي عليه ألا يكون في هذا المشهد مقيدا لسارية من قيود يخلقها لنفسه، وهو يرى السبرينات أمامه ولا يجرأ على قوتها، وألا يكون قبل هذا بكل الضجيج الذي يحدثه كأوليس: لا أحد!.