كاتب صفحة الرأي لن يكون صاحب رأي سياسي إلا بقدر اطلاعه على معطيات الواقع بأبعاده المختلفة، وبقدر اطلاع كاتب بسيط على واقع العلاقات السعودية الإيرانية، يكتشف أن الأزمة أزمة فضاء جيوإستراتيجي في المقام الأول، وليست أزمة سنة وشيعة، (الغطاء الطائفي) ممتاز لإدارة الصراع وقد يستخدمه جميع الأطراف، لكنه ليس سبباً حقيقياً للمشكلة.

ما أنقله هنا ولعله يضيف ولو بذرة صغيرة في طاولة (لعبة الأمم) منقول لواقع يخص ألمانيا واليابان في أوائل التسعينات من القرن الماضي، فقد كانت أميركا قبل بضعة عقود ترى أن ما قدمته لليابان وألمانيا كثير ويجب تسديده، ولكن تسديد المستحقات الأميركية لا تريده (عن طريق قيام البلدين (اليابان وألمانيا) ببناء قوة عسكرية ضخمة تشتمل بالضرورة على ترسانة نووية خطرة، وإنما يمكن للبلدين دفع المستحقات عليهما بأدوار يتكفل بها كل واحد منها في منطقة جواره، فأوروبا وألمانيا في وسطها على أن تتكفل بمسؤولية ضبط الأمور والمساعدة بكل الوسائل على تدبير الأحوال في أوروبا الشرقية السابقة بما في ذلك (يوغوسلافيا).

ثم إن (اليابان كجزيرة حاكمة على طرف القارة الآسيوية، عليها أن تتأكد من أن الصين في مكانها لا تتجاوزه بدور يمنحها السيطرة على جنوب شرق آسيا، وهو حوض كبير للحضارة الصينية وجاهز للنفوذ الصيني، وبدون كل المساحيق الدبلوماسية فإن أميركا على هذا النحو كانت تقصد إلى إشغال أوروبا، وربما إثقالها بمهمة باهظة التكاليف، وفي الغالب مستحيلة، على جبهة أوروبا الشرقية، كما أنها كانت تقصد إلى إلهاء اليابان وربما توريطها بمهمة خطرة إزاء الصين، إن ألمانيا لم تكن فيما ظهر مستعدة لما رسمته لها الولايات المتحدة، بل رسمت لنفسها، إلى حد الخروج على الإجماع الأوروبي والاعتراف باستقلال «سلوفينيا» رغم احتجاجات واشنطن، ثم إن اليابان كما تبين رسمت لنفسها سياسة اقتراب من الصين وليست سياسة تناقض معها، وأول الدواعي أن احتمالات السوق وفرص الاستثمار في الصين مهولة، وهكذا لم تنجح سياسة توريط أوروبا الغربية في أوروبا الشرقية، ولا سياسة ضرب الصين باليابان، ثم تخلو القمة لأميركا وحدها ربما إلى الأبد المنظور). نقلته بتصرف بسيط عن كتاب لمحلل سياسي عربي متوفى، نقلته كالراوي ينقل الحديث إلى من هو أفقه منه.

في منطقتنا العربية، هناك دولتان إسلاميتان تحاولان المساس بفضائنا العربي الجيوإستراتيجي، فليست السعودية وحدها التي تواجه المشكلة، بل إن مصر والأردن تواجهان المشكلة نفسها، أما دول الخليج فلا أحد عاقل في دول الخليج جميعاً بما فيها من تناصبنا العداء العلني، يتوقع له مستقبل مشرق دون وجود السعودية، بصفتها الأخ الأكبر وظلها المرتفع، هو ما يتيح لبعض دول الخليج هذه المناورة اللذيذة في محاكاة لعب الكبار.

ما حصل في بقيق ليس حربا فالحرب قد بدأت ضد إيران منذ دخول القوات السعودية إلى البحرين، وجنون إيران بدأ منذ اغتيال رفيق الحريري، وبالإمكان التعمق أكثر في البدايات، فنقول إن مذكرات بريمر بعد سقوط بغداد تشي بالنفوذ الإيراني أكثر مما تشي بتوافق أميركي خليجي، أو أميركي عربي مع ما سمي (دول الاعتدال).

ما حصل في بقيق هو تصعيد إيراني باتجاه التفاوض، وليس تصعيدا باتجاه الحرب، والدخول في تفاوض معلن أو سري قبل أن يكون هناك معادل موضوعي لهذا التصعيد (التفاوضي الخشن) يعتبر مكسبا لصالح إيران، وما تريده إيران يدغدغ مشاعر تركيا (تركيا متناغمة مع أميركا ومتناغمة مع إسرائيل أكثر من أي دولة عربية بما فيها مصر والأردن)، فإيران تريد الوهن في دول الخليج، وتركيا تراهن على عمقها السني كحضن وحيد لكل العرب (لا سمح الله) إذا لم توجد قوة إقليمية عربية منافسة كعمود خيمة أخير تستظل به الدول العربية، ومصر هي أكثر من عمود، والسعودية أكثر من خيمة، والأردن ضرورة دولية.

ما تريده المملكة العربية السعودية كدولة عضو في الأمم المتحدة من جمهورية إيران يجب أن تقرره السعودية وإيران بشكل دولي تشارك فيه دول ضامنة كبرى، لا مجرد اتفاقية تشبه اتفاقيات صدام في عدم الاعتداء، والمسار الذي بدأت السعودية في خلقه عبر طلب التحقيق الدولي يتمنى كل عاقل أن يتجه إلى تشكيل ثلاثي أو رباعي لدول كبرى تبحث الوضع كوسيط شريك لأميركا التي يصرح رئيسها بمفردات استغنائه عن النفط الخليجي فكأنما يقصد الصين واليابان المحتاجة لنفط الخليج أكثر من غيرها، أكثر مما يتقصد استغنائه عن النفط، ومد خيوط التفاوض مع إيران ليس جريمة، لكن في الوقت المناسب، ولو احتاجت المسألة إلى صبر أطول على الحصار الاقتصادي الذي نرى أنه يؤتي أكله، ويكفي أن ما حصل في بقيق في إحدى زوايا النظر هو محاولة تنفيس إيرانية ضد الاختناق الشديد الذي تعانيه، والذي يمكن زيادته بالضغط أكثر، والنصر بالصبر وليس بكثرة المال والعتاد، فتلك عوامل مساعدة فقط.