مع تمددِ الحركة الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية، واصطدام الأمم المستعمرة بالأمم المستَعمَرة، كان أهم حاجز يقف في طريق المستعمر وفي طريق تمدده الجغرافي هو الحاجز الثقافي، ومع الحقبة الاستعمارية أخذ مفهوم الثقافة «culture» بالتخلق والنشوء حتى صار جزءا هاما في قاموس اللغة الإنجليزية، ومعه بدأت عملية نشر الأفكار والمعتقدات والسلوكيات لدى الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، وفي الواقع لم يكن نشر ثقافة المستعمر خيارا لهذه الشعوب.

إرغام الشعوب تحت الاستعمار لاعتناق ثقافة المستعمر كان له مبرره الأخلاقي، وهو إدخال هذه الشعوب حيز الحضارة والتمدن، لذلك صار تدجين الشعوب ودمجها ثقافيا وإلحاقها بثقافة المستعمر المتحضر يمثل التزاما أخلاقيا، ومن هنا كانت بداية الاهتمام بثقافة الشعوب وتقدير ثقافتهم بناء على الاعتقاد بأن ثقافة المستعمر هي الثقافة المتفوقة، وتصوير ثقافات الآخرين وكأنها شاذة وغريبة وغامضة، فكان الاهتمام بالثقافة وما في حكمها من مفاهيم كالتنوع الثقافي والتواصل الثقافي والاختلاف الثقافي يُوظّف لغاية بعينها هي الاستغلال الاقتصادي للشعوب المستَعمَرة.

مع مطلع القرن العشرين، وتوافد المهاجرين من الدول الفقيرة للولايات المتحدة، أرض الأحلام والفرص وتحقيق الآمال والطموحات، كما تصور للمهاجرين، أخذ مفهوم الثقافة يطفو على السطح من جديد، وطُرحت ظاهرة الصراع الثقافي على طاولة البحث والدراسة، كواحدة من أهم الظواهر التي تقلق مضاجع صناع السياسة ورجال الاقتصاد، فتعدد العرقيات واختلاف الديانات والفروقات الكبيرة التي تحددها مرجعيات ثقافية مختلفة، والصراع والعنف الحتميان الناتجان عن هذه التعددية، فرضت على صناع القرار معرفة جوانب الاختلاف ومسببات التطرف في المجتمع الجديد المتنوع ثقافيا.

كان المهاجرون يأتون للوطن الجديد ليكونوا مواطنين أميركيين، ويكون الانتماء للوطن الجديد، أميركا، ولكن هؤلاء المهاجرون بدلاً من الاندماج في المجتمع الجديد، خلقوا مجتمعات مستقلة ومنعزلة، هي عبارة عن نسخ مكررة لوطنهم القديم، وبدلاً من ترك كل عاداتهم وتقاليدهم القديمة خلفهم جلبوها معهم، فأصبحت هناك أحياء لكل طائفة وكل عرق، فهناك الحي الإيطالي والحي اليهودي والحي الهندي والحي العربي والحي الإيرلندي، كل حي خُلق له مجتمع جديد هو عبارة عن نسخة مصغرة للوطن الأم.

كان التنوع مجلبةً لحرب الشوارع والصراع بين الأحياء، فلم تعرف هذه الأحياء التعايش أو التسامح، بل إن مجرد مرور شخص مختلف عبر حي من الأحياء يعد استفزازا لساكني الحي، فالرجل الأبيض كان يتحاشى المرور بأحياء أصحاب البشرة السوداء والعكس، وكم من المشاجرات والصدامات وحروب الشوارع التي نتجت عن الاختلافات الثقافية والعرقية بين قاطني الأحياء المختلفة.

كان التعايش بين الأعراق المتعددة شبه مستحيل على المدى القصير، واستيعابها ضمن ثقافة موحدة أشد صعوبة في حقيقة الأمر، ولكن وحسب نظرية «قدر الصهر الثقافي»، فإن دمج الثقافات المتعددة لم يعد مستحيلا، ولكنها تحتاج لكثيرٍ من الوقت، يمتد لعدة عقود من الزمن، وقد لا تظهر نتائجه الإيجابية إلا مع الأجيال القادمة، جيل الأبناء والأحفاد، الذين ولدوا وترعرعوا بين أحضان المجتمع الأميركي الكبير.

إن الشعوب داخل آلة الصهر الأميركية لن تستطيع المقاومة طويلا حسبما يراه أصحاب نظرية الصهر الثقافي، وسوف يأتي اليوم الذي ينسلخ المواطن فيه عن ثقافته الأصلية ويذوب ذوبانا كاملا، ويندمج في ثقافة المجتمع الأميركي، ويعيش وفق هذه الثقافة المشتركة.

انسلاخ المواطن من ثقافته الأصلية لا يحدث بطريقة تلقائية دون أي مؤثرات خارجية، فبوتقة الصهر الثقافي تسير ضمن منهجية معينة تسعى نحو هيمنة ثقافة بعينها على الثقافات الأخرى عن طريق تحييدها وتهميشها في مجالات الحياة اليومية، وتلعب الجامعات ومراكز الأبحاث المتقدمة دورا هاما في مد صناع القرار بما يلزم في سبيل وضع الخطة طويلة المدى نحو الهيمنة الثقافية، وفرض أحادية ثقافية كان أهم جوانبها الضخ الإعلامي المكثف واليومي، فالإعلام يلعب دورا فعالا في نشر السلوكيات والأفكار والقيم التي تضمن صهر أكبر قدر ممكن من الثقافات المختلفة في بوتقة الثقافة المحلية المشتركة.