سعادة الناس وكمية الابتهاج والأنس التي مرت بها السعودية في يومها الوطني التاسع والثمانين لا يمكن أن توصف. تعدد الفعاليات وتنوعها، وإسهام الجهات الحكومية والخاصة وغير الربحية في هذا الفرح، أمرٌ فاق الوصف.

قبل أن أدخل في صلب مقالي، أودّ القول: «إن طريقة الدولة في تعاطيها مع ملف اليوم الوطني، يعدّ أمرا مذهلا ومدهشا يستحق التأمل».

قبل سنوات قليلة، كانت هذه المناسبة تمر مرور الكرام. وقبل سنوات أقل، كان التجول في هذا اليوم، أشبه ما يكون بالسير المحفوف بالمخاطر.

اليوم، نحتفل في كل مدينة ومحافظة بفعاليات مبهجة ومنضبطة ومنظمة. هذا التغيير وطريقة إدارته، أمرٌ في غاية الإيجابية، ويستحق أن يدرس من قِبل طلاب الدارسات العليا في العلوم الإدارية والعلوم الاجتماعية.

حديثي اليوم عن نقطة أخرى. جميعنا نعرف، أن المواطنين هم أحد العناصر الأساسية في أي وطن. هؤلاء المواطنون هم من يصنع هذا الوطن، وهم من يدمرون ذلك الوطن. وفي السعودية كنا قبل 89 عاما مجرد صحارٍ قاحلة، وقبائل متصارعة تغذيها أطماع دولٍ هنا وهناك. وفي ظل هذه الظروف، جاء الملك عبدالعزيز كثائرٍ إصلاحي على هذا التشرذم، وكمطالب بحقوق أسلافه في إعادة لمّ شمل الحدود المتناثرة، وكمثبّت للحكم، ومُرسٍّ لقواعد دولة مجيدة، تسعى إلى أن تخرج من الخلافات والصراعات المحلية إلى رحابة العالم الواسع.

ساعده في هذا التحول والتغيير رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، قبل أن يصدقوه ويصدقوا أبناءه الملوك من بعده. رجالٌ سخّروا جهودهم وأوقاتهم، وبذلوا كل رخيص ونفيس في سبيل رفعة هذا الوطن، وفي سبيل أن ينعم الأبناء والأحفاد بالخير العميم والرزق المديد. هؤلاء الرجال هم الذين استطاعوا حرق المراحل لنعيش اليوم في هذا البلد المتنامي والمتوسع تنمويا في كل أطرافه.

سؤالي الذي أطرحه عليكم أيها الكرام: هؤلاء الرجال الذين هم جدّي وجدّك، ووالدي ووالدك، وعمي وعمك، وأخي وأخوك. هؤلاء الرجال، أين سيرهم الذاتية؟ لماذا لم يدوّنوا لنا كيف بدؤوا أعمالهم من الصفر؟ لماذا كُتب السير الذاتية في الثقافة السعودية قليلة ونادرة؟ كيف صنع علماء الدين سياسية واقعية متزنة؟ كيف أدار السياسيون والدبلوماسيون أزمات الدولة في سفاراتهم؟ كيف بنى التجار ورجال الأعمال والإعلام الكبار مؤسساتهم الضخمة؟ كيف أنتج المهندسون لنا الشركات الصناعية العالمية؟ ما التحديات التي جاءت قبل بناء مدرسة في كل قرية؟ وجامعة وكلية في كل مدينة؟ أين سير هؤلاء الذاتية؟ لماذا لم يدوّنوا لنا كيف استطاعوا أن يغيّروا ثقافة المجتمع من مجتمع ريفي وبدوي إلى مجتمع حضري وصناعي وتجاري وعملي متقدم؟!

تجربة التدوين الشخصي للمذكرات والسير الذاتية لدينا متدنية جدا. أتمنى فعلا لو أن الملك فهد والأمير سعود الفيصل كتبا مذكراتهما، ووجهة نظرهما حيال بعض الأمور التي استطاعا حلّها بكل جدارة.

كنت أتمنى معرفة الدوافع التي دفعت الأمير طلال بن عبدالعزيز، إلى صناعة مؤسسات تعليمية وفكرية مميزة. كنت أرغب في أن محمد سرور الصبّان، وحمزة المرزوقي، أخبرانا بالتحديات التي واجهتهما. كنت أتمنى أن عبدالله بن سليمان تحدث لنا كيف استطاع أن يتعامل مع المال في وقت الشحّ، وفي وقت الوفرة.

نهايةً، أود القول: إن كتابة التطور الزمني للوطن ومنشآته، يعدّ -في ظني- من أَجَلّ وأعظم مظاهر الوطنية الصادقة. وأنا هنا اليوم أتوجه بكل الرجاء للمسؤولين الكبار في الدولة، أن يضعوا في حسبانهم كتابة مذكراتهم مستقبلا، ليستفيد منها من يأتي بعدهم.

وبالمناسبة، أنا أدعوك عزيزي القارئ إلى قراءة مذكرات علي النعيمي، وإبراهيم المنيف، وعبدالله الطريقي، وحمد المانع، وعبدالله السعدون، وغيرهم، ممن دوّن سيرته ومذكراته، لتضيف أعمارُهم ونتاجُ أفكارهم إلى عمرك وفكرك، وبالتالي تنعكس هذه الرؤية على أعمالك ومنتجاتك الوطنية التي تقدمها للوطن في عملك الذي تعمله.