استعار جحا من جاره قِدْراً ليطبخ فيه، فأعاده إليه مع قِدْرٍ صغير فاستغرب الجار من ذلك، وأبلغه جُحَا أن قِدْرَه أنجبت قِدْراً صغيرا ففرح الجار كثيرا وشكر جُحَا على أمانته، وذاعت الحكاية بين الناس فأنكروها بداية ثم صدقوها ثم بادروا بالتهنئة لصاحبها، وبعد أيام علم الجيران أن جُحَا بحاجة إلى قدر كبير فذهبوا إليه يقدمون القدور وأملهم كبير بأن قدورهم سوف تلد عنده، ولكن المفاجأة التي صدمت أصحاب القدور أن جحا بعد أيام قدم لهم التعازي بموت قدورهم فلم يصدقوا ذلك وأنكروا عليه موت القُدُور، فما كان منه إلا أن انفعل وثار في وجوههم، وقال: إذاً كيف صدقتم أنها ولدت قِدْراً صغيرا؟.

حكاية تأخذنا إلى الوقوف عندها وإمعان النظر في مضمونها الرمزي وشيوع حدوثها في مجتمعاتنا، وأن كثيرا منا وقع في إشكالية موت قِدْره بعد أن صدق أن قِدْر جاره قد أنجب قِدْراً صغيراً، وأن شخصية جُحَا الانتهازية موجودة بيننا وتتعدد في أدوارها وتتنوع في أساليبها، ولديها القدرة على التلون وفق البيئة والظروف، وتستغل مساحة الفرص بسرعة فائقة وذكاء كبير.

فحكاية جُحَا مع القِدْر تصور لنا المشعوذ الذي يدعي أنه يعالج الناس من السحر باستخدام أساليب الوهم الذي صدقه المريض في علاجه ونقل تجربته للآخرين وأرادوا تقليده، وصاحب الواسطة والنفوذ الذي يلعب على وتر تحقيق بعض طلبات العاجزين عن الوصول إلى أهدافهم وهو يبتزهم وهم يدفعون، والمحتال الذي يجمع أموال الناس لغرض استثمارها خارج نطاق المشروعية والأنظمة الاقتصادية من أجل إيهامهم بأن أموالهم سوف تدر عليهم أرباحا تفوق رأس مالهم، ثم تُصبح سرابا ليس لها وجود، والجماعات الإرهابية التي تقوم على تسويق الشهادة في ساحات الموت والقتال من أجل تلبية رغبة المتعطشين لمعانقة الحور العين فيكونوا حطبا في ساحة مواجهتها مع الآخرين، ومروّج المخدرات الذي يضحك على شهوات العابثين بأموالهم وأنفسهم بحثا عن الهلوسة والأحلام، ومنتجو الدعايات التجارية التي تستخدمها الشركات من أجل ترويج منتجاتها على حساب صحة المستهلك وسلب ماله، ودعاة الخطاب التعبوي والتحريضي والفئوي سواء أكان خطابهم دينيا أو اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا الذي هدفه الصعود على أكتاف غيرهم وهم يظنون أنه من أجلهم.

لقد نجح جُحَا في استثارة العاطفة والسيطرة عليها وتعطيل أنظمة العقل والتفكير عن العمل، وإشباع الرغبات والشهوات والمصالح الشخصية في النفس البشرية، ولَعِبَ على وتر الحصول على النتائج والغايات مع تبرير استخدام الوسائل والطرق المُؤدية إليها؛ فمن يعتقد أنه مسحور فغايته زوال السحر وتأثيره، ومن كان يرغب في زيادة رأس المال فلن يهتم بمصدره وكيف اكتسبه، ومن ضاقت عليه الحياة وعجز عن النجاح فيها فطريقه جنة الخلد وحور عينها ولو على حساب قتل أرواح المخالفين له، ومن يحلم بفرض منهجه الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي فلن يهمه مضمون خطابه وجوهر دعوته.

فأصحاب القُدُور مثلهم كمثل المسحورين والعاجزين والمستثمرين والمتعطشين والعابثين والمستهلكين والبسطاء، الذين فشلت توقعاتهم في تحقيق طموحهم وغاياتهم ومصالحهم الشخصية وأحلامهم الوردية، فعادوا إلى أنشطة التفكير وأدوات العقل لإدراك قفلتهم وأسباب سيطرة العاطفة عليهم، فوجدوا النتيجة «عندما يموت الْقِدْر يصحو العقل من هفوته»!