الهاليو أو الموجة الكورية، كانت هي السبب لذلك التجمع البشري الكبير في إستاد الملك فهد الرياضي يوم الجمعة الماضي، أول أيام موسم الرياض غير المسبوق كماً ونوعاً. ذلك الانسجام الهائل بين الحضور الذي يغلب عليه صغر السن خاصةً من الفتيات وبين الفرقة المكونة من سبعة فتيان لا تزيد أعمارهم عن 27 عاماً لم يأتِ خلال عام أو اثنين، بل كان هدفاً ضمن خطة وضعتها الحكومة الكورية، بعد أن كانت تعاني إنهاك الحروب المتتالية عليها، الحرب العالمية الثانية ثم الحروب الأهلية التي قسمتها ووضعتها في ذيل قائمة الأمم في مؤشرات الاقتصاد والتعليم، وعانت في بداية ستينات القرن الماضي أسوأ مراحلها التي استطاعت تجاوزها بتغيير اقتصادي شامل انتقل بكوريا الجنوبية من الاعتماد على الزراعة وصيد الأسماك إلى تنوع يعتمد بشكل أكبر على الصناعة والتعدين. غيرت أيضا كوريا الجنوبية في مرحلة النهوض الاقتصادي كثيراً من أساليبها الاجتماعية والتعليمية، وركزت في الأخير على إنشاء مراكز للدراسات والبحوث تضع من خلالها أسس سيرها الحثيث لتغيير واقع كوريا الجنوبية الميؤوس منه بعد دمار الحروب.

في أواخر الثمانينات الماضية أطلقت الحكومة الكورية حملة (الموجة الكورية)، وهي حملة ثقافية وإعلامية كبيرة وموجهة، تقدمها من خلال صناعة الأفلام والمسلسلات والموسيقى وخطوط الموضة الخاصة فيما يتعلق بالأزياء والمطبخ والديكور، وانتشرت هذه الموجة بشكل كبير ومتسارع ومتناسب مع اهتمام وعناية دول شرق آسيا بها، ثم توالى الاهتمام والعناية دون توقف حتى وصل إلى جميع دول العالم، واستطاعت أن تفرض وجودها مع هيمنة المعسكر الغربي.

في بداية الألفية الجديدة، بدأ عرض المسلسلات والأفلام والأغاني الكورية في الفضائيات العربية، وكان المتلقي الأول لها هم «مراهقو» منازلنا، الدراما الخفيفة التي تتطرق لها هذه المسلسلات وكلمات الأغاني وصخب الموسيقى التي إما أنها كانت تلامس واقع هؤلاء الصغار أو تداعب أحلامهم جعلتهم شغوفين بهذا الفن ومنفتحين افتراضياً على هذا الشعب ومتطلعين لثقافته وأساليب حياته، إنهم عملياً يمتطون الموجة الكورية كما خُطط لها، ويتلقون هذه القوة الناعمة بحب، والتي لم ندركها إلا حينما جاءت الفرقة الكورية BTS للرياض، وشاهدنا تلك الجموع التي تسير بنظام يشبه النظام الكوري، وتتمايل طرباً بنعومة تشبه النعومة الكورية، وتغني بلغة لم ندرسها يوماً في مدارسنا.

لم تكن الجنسية الكورية - أو كما يسميه آباؤنا «الكوارية» - غريبة على كثيرٍ من الأسر في بداية الثمانينات، فالمملكة العربية السعودية كانت من الدول القليلة التي دعمت الاقتصاد الكوري أيام ضعفه، واستقبلت أعداداً كبيرة من العمالة الكورية في شركات المقاولات التي أسست كثيراً من البنى التحتية في عدة مناطق أو عبدت الطرق في مختلف الجهات أو أخرى مختصة بالتقنيات والحوسبة. إن وجود هؤلاء الكوريين في شوارعنا ومجمعاتنا السكنية وحاراتنا لم يكن يخلو من الحس الإنساني والفني الذي تركوه في كثير من الأسر، فمع كونهم اجتماعيين بالفطرة فهم أيضا على قدر كبير من العلم والثقافة، وكنا نراهم يمارسون هوايتهم التي تعد غريبة ومحظورة على الكثير وقتها كالرسم والرقص والعزف، فضلاً عن ممارسة الرياضات المختلفة، وهاهم يعودون للظهور في المجتمع السعودي هذه المرة من خلال الموجة الكورية.

الحكومة السعودية تعلم جيدا مدى قوة الدولة الكورية في الوقت الحاضر وتقدمها الأممي في مجالات كثيرة، لهذا أطلق ولي العهد محمد بن سلمان في أكتوبر 2017 على هامش قمة قادة العشرين بالصين الرؤية السعودية الكورية التي تتضمن 40 مبادرةً تحقق أهداف هذه الرؤية التي تصب في مجالات الاستثمار والتنمية وتدفق الاستثمار الأجنبي، ولعل وزارة الثقافة ووزارة الإعلام تتبنى مبادرات ثقافية وإعلامية ضمن هذه الرؤية أو على هامشها تستفيد منها من تجربة الموجة الكورية، وتدفع بالقوى الناعمة التي تملكها تجاه حراك أكبر ممتد وشامل، وتستفيد من تجربة هيئة الترفيه من دعوتهم لفرقة BTS لإقامة احتفال كشف لنا أن في المجتمع شريحة كبيرة - حساسة ومهمة - كانت تعيش في محيط خاص منعزل تتلقف فيه قوة ناعمة موجهة وتتقبله وتتعايش معه، وتحتاج هذه الشريحة للالتفات والعناية والتفهم، كما تحتاج هذه الحالة الاجتماعية للدراسة والبحث من المختصين.