المراد بخصائصِ الأمم -أو ما يُسَمَّى اليوم بالخصوصية-: كل ما كان له أثرٌ في تشكيل أمة من الأمم، من الدين والتاريخ والجغرافيا والأخلاق واللغة والهيئة الاجتماعية والرؤية للكون والحياة، وما ينتج عن مجموع ذلك من علوم وآداب وعادات وأعراف.

فكلُّ أمّة وكلُّ شعب وكل مجتمع له خصوصيَّاته، وأيّ أمة أو شعب أو مجتمع لا يملك خصوصياتٍ فهو تَجَمُّع بشريٌّ ذائب وفي طريقه للاندثار تحت عباءات الأمم الأخرى، والأمة التي تحفظ خصائصَها وتقوم بواجبها وتُلَقِّنُها أجيالَها هي الأمةُ التي تبقى بقاءَ التأثير والعطاء والمنعَة، لا بقاء الوجود وحَسب؛ وبقدر ما تُفرِّط أيُّ أمة بشيء من تلك الخصائص فإنها تقترب من فنائها، وليس هذا خاصًّا بالأمة الإسلامية، بل هو سنَّة كونيةٌ تتضح لك من خلال سبر تاريخ الأمم جميعها؛ فما من أمة صغرت أم كبرت، زالت أو انصهرت في غيرها، إلا وتجد لتخلِّيها عما اختصَّت به من السجايا والسمات أثرًا في ذلك؛ وما من أُمّةٍ عزَّت وبقيت إلا وكان لاعتصامها بسجاياها ومُثُلِها أثرٌ في ذلك، بصرف النَّظر عن تغلُّبها العسكريّ من عدمه؛ فقد تُهْزَم الأمّة عسكريا أو اقتصاديا أو سياسيا، أو تُهْزَم في كل ذلك، لكنها تبقى حضاريا بقاءً يجعل عودَتها أمرًا محتومًا بسبب تمسُّكها بسجاياها التي تظلّ تلِحّ عليها حتى تعودَ بها إلى ميدان الوجود الحضاريّ.

نعم، هناك خصائص للأمم نحكم عليها بالسّوء من منطلقِنا الإسلاميّ، وهذه الخصال السيئة قد تكون ممّا يتعارض مع بناء مجتمعٍ متمدّنٍ، كخصلة العُدْوانية بين مُكوِّنات المجتمع، سواء أكانت هذه العدوانية نتيجةَ تنافس زراعي أم تجاري، أم تنافسٍ قبَلي.

فالتنافس التجاريّ والزراعيّ يُحَدِّثُنا عنه التاريخ في التجمعات القرويّة الزراعية أو الساحلية؛ كحال اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، وحال إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، وحال الكثير من البلاد الخصبة والبحرية حينما تنحسر عنها السلطة الجامعة.

أما التنافس القبَلي فالأصل فيه أن يكونَ بين سُكَّان الصحراء الذين الأصلُ فيهم أيضًا ألا تكونَ لهم دولةٌ بسبب عامل اقتصاديٍّ وعامل أمني؛ أما الاقتصاديّ فلأن الصحراء لا تمتلك مواردَ تساعد على قيام الدُّوَل؛ وأما الأمنيّ فلأن فقرَ الموارد يجعَل سكانَ الصحراء يعتمدون على اقتصادِ الحرب؛ أي: جعل الحرب البينيَّة مصدرًا أساسًا أو وحيدًا للدخل؛ ولذلك فإن مشاريع إقامة الدول في الصحراء تفشَل دائمًا، وربما لا يَعْرف التاريخُ محاولات كثيرةً نجحت في تحقيق ذلك؛ وقد حاول العربُ وفشلوا حينما سعَوا لإقامة امتدادٍ لدولة كندة في وسط الجزيرة وشمالها؛ ولو أنَّ دولةَ المرابطين اقتصر بقاؤها على مكان نشأتها -وهو الجانب الغربي من الصحراء الكبرى- لما استطاعت الاستمرارَ؛ لكن بَسْط نفوذها على الأقاليم الشمالية لإفريقيا وجنوب أوروبا حقَّق لها النجاحَ كدولة؛ بينما لم يُلاق جناحُها الجنوبيُّ المنبسط من السنغال حتى غانا النجاح نفسَه، ربما لصعوبةِ تفكيك المجتمعات الإفريقية آنذاك.

قلت: إنَّ الخصائصَ السيئَة التي تتعارض مع التمدُّن لا يُمكن المطالبةُ باستبقائها؛ بل إن استبقاءَها سيكون حتمًا عائقًا دونَ الصعود الحضاريِّ.

أما الخصال السيئة التي بالرغم من سوئها يُمكن مع وجودِها إنشاءُ مجتمع مدنيّ فهي كثيرة، ومنها الفساد العقديّ والفساد الأخلاقي، فقد تبلغ بعضُ الأمم قمَّة مجدها الحضاريِّ في ظل وجود الفسادين؛ كالمجتمعات التي ذكَر الله إهلاكهُ إياها في القرآن، فقد كانت مجتمعاتٍ مدنيّةً فاسدةً عقديًّا وأخلاقيًّا، كما جاء في الكتاب العزيز وصفُ عاد وثمود وقوم فرعون؛ لكنَّ سَبَبَ حضارتِهم ومدنيَّتهم لم يكن ذلك الانحراف، وإنما كان سرُّهما شيئًا من تلك الخصال التي تنشأ بفضلها الحضارات كالعلم والصناعة والمعمار والقوة والأمانة والعدل والصبر والوِحدة والإدارة؛ وكُلُّها خصالٌ لا مانع من أن تقع في أُمَّة مُبْتلاة بالانحراف العقدي والأخلاقي كما كان عليه الحال في الدولة الرومانية التي بنت حضارةً ومجدًا طويلين بفضل ما يملكه الرومان من خصائص ذاتية في أمَّتهم، وخصائص في بِنْيَة الدولة وإدارتها إقليميًّا وعسكريًّا وقانونيًّا، وما عندهم من المعمار والصناعة؛ وبما أننا قلنا: إن الحضارة تنشأ مع وجود الانحرافات في العقيدة والأخلاق فإنَّ هذه الانحرافاتِ تبقى شؤمًا على الحضارةِ حيثُ تبقى تنخَر في المجتمع كما نخرت في المجتمع الروماني، إلى أن أصبحَ أضعفَ بكثير من أن يحملَ الأعباء الحضارية؛ إذًا فمثل هذه الانحرافات وإن لم تكن تَحُول دون قيام الحضارة، إلا أن طُغيانها يَحُول دون استمرار الحضارة، ولعل مما يُصَدِّقُ ذلك قول الله تعالى: ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾ [الإسراء: 16]، فالفسق مُدَمِّر للحضارة وليس مانعًا من نشوئها.

استشكال وجوابه:

وهنا محل استشكال وهو: ألم نَقُل في بداية حديثنا: إنَّ الأخلاق والأعرافَ مع ما أُنتج من دين ولغة وتاريخ وجغرافيا هن من خصائص الأمم؟! فكيف لنا أن نقول: إن الدين المنحرف والأخلاق الفاسدة يمكن معهما إقامة حضارة، مع أن إصلاح الدين والأخلاق لازِمَان، فهل يتنافى إصلاحهما مع استبقاء الخصائص التي تلزم لبقاء الحضارات؟!

والجواب على نَحْوَين: نظري وتطبيقي:

أما النظري فنقول: نعم إن الحضارةَ القائمةَ على عقيدة منحرفة وأخلاق فاسدة يلزم أهلَها إصلاحُها، فإن نجحوا في ذلك فإنهم يكونون قد أسَّسوا حضارةً جديدة تنحصر علاقتها بالأولى في الزمان والمكان وحسب.

وأما النحو الثاني التطبيقي: فإن ذلك الأمر المفترض غيرُ واقع تاريخيًّا، فالتاريخ لا يُحَدِّثُنا عن أمة كانت منحرفةً في الدين والأخلاق ثم أصلحت نفسَها في سياق زمنيّ ومكانيّ واحد.

نعود للدولة الرومانية التي أضعفها الفِسق عن حمل أعباء الحضارة، فلم تجد بُدًّا من إضفاء القداسة الدينيّة عليها كي تُغَطّيَ هذا الخواء الداخلي الذي أصبح يُهدِّد أركانها؛ حتى جاء الفتح الإسلاميّ الذي حمل روحًا تُسْقِطُ القداسة عن كل شيء إلا الحقّ، فتهاوت هذه الإمبراطورية بسرعة فائقة أمام جنود الفتح الإسلامي الأقل عددًا وعدَّة بمراحل كثيرة؛ وذلك لأن دعوةَ الإسلام قبل أن تُسْقِطَ البناءَ العسكريَّ والإداري الروماني أسقطَت العمودَ الذي يقوم عليه ذلك البناء وهو دعوى القداسة، فلما سقط الأساس المعنويُّ لتلك الدولة انهارت سائر جوانبها؛ والأمر في الدولة الكسروية شبيهٌ بذلك كلّه.

والدُّوَل هي الأوعية الصحيحَة للحضارات، ومن التكلُّف الشديدِ محاولة البعض إثباتَ حضاراتٍ لشعوبٍ لم تنتظِمها دولةٌ؛ كالشعوب البدائية في المناطق المتجمِّدة أو شعوب الصحراء الكبرى، إلا وفق تعريفٍ واسع جدًّا للحضارة يشمل الثقافةَ بمفهومها الواسع الذي يضمّ اللغة واللباس والفنون والمِهَن؛ فعلى ما أخْتَارُهُ من تعريفات فإنَّ كلَّ الأمم تكون لها ثقافةٌ حتميَّة تقوم بها حياتُها من معارف بيئيَّة ومِهَنية وفنون وقوانين عُرْفِيَّة، ومعنى كونها حتميَّة: أن الأمَّة لم تُحَصِّلها باجتهادها وسعيها ومثابرتها؛ بل هي معارف فرضت نفسَها على الناس من خلال تراكم المعلومات والخبرات عبر الأجيال الكثيرة المتطاولة؛ مثال ذلك: علم النجوم الذي هو علم دقيق جدًّا، تتوارثه الشعوب البدويَّة في جزيرة العرب والصحراء الكبرى وصحراء منغوليا وغيرها، يعرفون به طُرُقَ السير واختلافَ الفصول وتوجّهات الرياح والأمطار وأوقات الزرع والحصاد وأوقات الصيد، ومع ذلك لا أَعُدُّ هذا العلمَ بهذه الكيفيَّة حضارةً، بل ثقافة أكسبَتهم إياها الحاجة وتراكُمُ الخبرات، وليس طلب العلم والتأمّل والتجربة؛ والشعوب التي تمتلك ثقافات ليس حتمًا أن يكون لها حضارة؛ وقد تكون تلك الثقافات نواةً في أمة لبناء حضارة قويَّة.

الحاصل ممَّا تقدَّم: أن كلَّ أمة من الأمم عبر التاريخ القديم والحديث لها خصائصُ تميزها عن غيرها، وتوجب أن تتعاملَ وأن تُعَامَل وفقَ ما تقتضيه خصائصها.