الفترة الممتدة ما بين عامي 1914 و1945، التي شهدت حربين عالميتين، وخروج البشرية من أقسى حروب شاملة في تاريخها، ذهب ضحيتها آلاف القتلى والجرحى، شهدت أوروبا تراجعات مريرة لطريق التحديث الطويل الذي سلكته منذ القرن السابع عشر، فكان من مخاضات تلك الحروب الطاحنة أن بدأت البشرية تراجع أفكارها حول الحداثة، بعد أن أيقنوا أن هذه الحروب ليست إلا نتاج عالم بدأ يتداعى.

بعد تلك الحقبة الحالكة في مسيرة البشرية، وبعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وأخذت مراكز القوى تتبدل والتوازنات تتشكل من جديد، شهد العالم بداية الصراع المحموم بين قطبي العالم الخارج لتوه من سعير الحربين العالميتين، القطب الغربي الرأسمالي والقطب الشرقي الشيوعي، وهذا الصراع لم يقتصر على مساحة بعينها، بل أخذ كلا المعسكرين يطارد بعضهما بعضا في العالم، حيث الانقلابات والحروب الإقليمية، وفي أروقة الأمم المتحدة أخذ كل منهما يعمل على تعطيل مشروعات الآخر باستخدام حق الفيتو.

كانت كلتا الحكومتين -السوفييتية والأميركية- تعيدان ترتيب الأوراق ووضع الأولويات للبحث في كيفية الهيمنة على العالم، فعاش العالم حربا باردة بين هذين المعسكرين. كان الجانب الثقافي يلعب دورا حاسما فيها، فقد أخذت السياسة الأميركية إلى تصويب ضرباتها على جبهة الثقافة بما تشمله من أفكار وفنون وآداب وندوات ومحاضرات ومعارض، في محاولة لكسب عقول الناس وتشجيعها على كراهية الشيوعي، بتقديم النموذج الرأسمالي الأميركي بديلا ثقافيا وبصفته الملاذ الأخير لسعادة البشر، والمسار الأوحد نحو التنمية والتحديث.

يقول ريتشارد كروسمان: «أفضل طريقة لعمل دعاية ناجحة، هي ألا يظهر عليك أبدا أنك تعمل شيئا»، وهي عبارة صادقة جدا، وتعكس حال ما يدور بساحة الصراعات الثقافية في العالم المعاصر. وفي مقدمة كتابها المهم والمثير للجدل «من الذي دفع للزمار» ذكرت الكاتبة الصحفية البريطانية خريجة جامعة أكسفورد فرانسيس سوندرز: «بينما كانت الحرب الباردة في أوجها، كرست حكومة الولايات المتحدة الأميركية موارد واسعة من أجل برنامج سري للدعاية الثقافية في أوروبا الغربية، كان أحد الملامح الأساسية لهذا البرنامج هو الحرص الشديد على أن يبدو كأن لا وجود له». وتمهيدا للطريق أمام مصالح السياسة الأميركية، بدأ العمل لتحصين العالم ثقافيا من وباء الشيوعية سريع الانتشار. عن طريق ضرب الشيوعية بواسطة الشيوعيين أنفسهم، أي محاولة تحطيم الشيوعية من الداخل، ولكي يكون الخطاب أكثر إقناعا وليس مجرد دعاية مغرضة ضد الشيوعية، اُستعين بالشيوعيين التائبين أو الذين تحطم إيمانهم بمبادئ الشيوعية، فيقومون بنقد الشيوعية من خلال الأعمال الأدبية، أو من خلال غيرها من وسائل التواصل المقروءة أو المرئية. لذلك كان يتم اختيار الكتاب بناء على مواقعهم، وليس بناء على مكانتهم الفكرية، حتى تعطى أعمالهم ثقلا ثقافيا.

وتضيف فرانسيس سوندرز قائلة في الكتاب نفسه: «كان لمنظمة الحرية الثقافية مكاتب في 35 دولة، ويعمل بها عشرات الموظفين، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ، وتنظم المعارض الفنية، وتمتلك مؤسسات إعلامية، وتعقد مؤتمرات دولية تحضرها شخصيات بارزة، وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز، وترعى معارضهم وحفلاتهم».

إن ما تحدثنا عنه آنفا قد لا يعجب أصحاب النوايا البيضاء والمؤمنون بالعيش في عالم مسالم لا مؤامرات فيه، ولكن الواقع قد يصدمنا بما هو أغرب، فالحرب الثقافية واقع لا جدال فيه، حتى وإن توارت عن الأنظار، ومحاولات فرض النماذج الحضارية واستزراعها في بيئات متعددة، كانت العنوان الأبرز للقرن العشرين.