انطلق المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المستدامة في سلطنة عمان في الفترة من 14-15 أكتوبر، برعاية أكاديمية من جامعة السلطان قابوس، لمناقشة واستعراض مجموعةٍ من الدراسات والبحوث المشاركة، في محاولةٍ لرصد أسباب الخلل القائم بين السكان والتنمية المستدامة المأمولة في عُمان، وسعياً نحو تحديد التحديات التنموية والسكانية القائمة بتسليط الضوء على بعض جوانب الخلل، والمدُعمة بالإحصاءات والتفسيرات العلمية والتحليل التفصيلي لمظاهر الخلل المختلفة ومستوياته المتنامية.

لعله من المهم الإشارة إلى أن جميع دول مجلس التعاون الخليجي تشترك في الكثير من التحديات التنموية التي تولدت نتيجةً لظروف التنمية التي شهدتها تلك الدول في بداية نهضتها التنموية، والتي شكل فيها النفط القاعدة التي انطلقت منها تلك المسيرة التنموية الخليجية نحو تحقيق برامجها وتطلعاتها في جميع القطاعات، والتي أطرت الكيان المؤسسي للدولة الحديثة في ظل ظروفها القائمة والمستندة على الدخل الريعي وليس الإنتاجي، وعليه كانت حكومات الدول هي الراعي والممول الأساس لجميع القطاعات، وهي المسؤول الأول كذلك عن التوظيف في قطاعاتها العامة التي احتوت معظم مخرجات التعليم بتخصصاته ودرجاته المختلفة.

عليه فقد اتسمت جميع دول المجلس بتحديات متشابهة في مقوماتها مع اختلاف في مستوياتها، ولكنها التقت جميعها حول ندرة وجود المواطنين المؤهلين نوعاً وكماً في بدايات عهد التنمية ومرحلة البناء الوطني، والذي ترتب عليه استقدام عدد غير محدود من العمالة من مختلف دول العالم ذات المستويات المختلفة، لتساهم في البناء والتأسيس للقطاعات المختلفة، المسؤولة بشكل مباشر وغير مباشر عن تنمية الموارد المختلفة التي منها: وضع اللبنات الأولى للنظام المؤسسي والسياسات في القطاعات المعنية بالتنمية البشرية والموارد الاقتصادية الأخرى، والذي انعكس مردوده الإيجابي والنفعي المتبادل على الطرفين في ظل الموارد المتاحة والظروف القائمة آنذاك.

بناءً عليه، فقد تمت صياغة تلك الأنظمة والسياسات بما تضمنته من تفاصيل ومواد وبنود لتخدم توجهات مرحلة تنموية معينة وظروف سابقة تختلف تماماً عما نعيشه اليوم بل ومنذ أكثر من عقد من الزمن، لذا تراكمت التحديات التنموية بمختلف مقوماتها المادية والبشرية نتيجة لعدم المواءمة والاتساق بين تلك الأنظمة والسياسات وبين ما وصلنا إليه من منجزات مشهودة في مواردنا البشرية والاقتصادية في القطاعات المختلفة. تلك الفجوة المؤسسية أدت إلى عدم التوازن بين السكان والتنمية، الذي أدى بدوره إلى تحديات تنموية كبيرة، انعكست سلبياتها على المجتمعات الوطنية الخليجية جميعها، بالنسق ذاته والمحتوى ذاته، وبما يؤكد أن الخلل في الأخذ بالسياسات السكانية المناسبة والملائمة لظروفنا التنموية المسُتجِدة كانت سبباً في تلك التحديات التي تواجهها جميع دول المجلس دون استثناء رغم وجود مفارقات بسيطة في المستوى ودرجة حدته.

وبعد مضي نحو نصف قرن على بدايات التنمية، وبما تضمنته من جهود حثيثة ونفقات ضخمة للارتقاء بجميع مقدرات الدول بمواردها البشرية والاقتصادية والطبيعية، التساؤل المطروح، أما آن الأوان لتصحيح نظم العمل وتشريعاته وسياساته بالتغيير، - وليس بالتحديث - بما يتفق مع منجزاتنا التنموية؟!، أليس المطلوب أن تكون نظمنا وسياساتنا تخدم معالجة تحدياتنا التنموية التي نشهدها في كثير من قطاعاتنا؟!، ولماذا نعجز عن معالجتها بالشكل الذي يساهم في تحقيق رؤيتنا وتطلعاتنا التنموية المأمولة؟!.

يعد الخلل في التركيبة السكانية، العامل المشترك الأهم بين دول مجلس التعاون، وترتب عليه عدد من التحديات التنموية تباعاً، كنتيجة لاستقدام أعداد مهولة من العمالة الوافدة، والاستمرار فيه دون تقنين لأعدادها مع غياب الضبط لنوعيتها، رغم تغير الظروف التنموية ومرحلتها الراهنة، والذي ترتب عليه عدم التناسب بين السياسات السكانية المتبعة وبين ما ننشده من تنمية مستدامة شاملة، وعليه يمكن تحديد بعض التحديات التابعة التي لا زالت دول الخليج عاجزة عن احتوائها بالشكل الصحيح:

-1 الخلل في التركيب الديموغرافي للسكان وذلك يتعلق بالتركيب النوعي (ارتفاع نسبة الذكور) والعمري (ارتفاع نسبة الشباب)، ومعدل النمو السنوي للسكان المتأثر بدرجة كبيرة بارتفاع معدل الهجرة الوافدة، أكثر من ارتفاع مستويات الخصوبة (الولادات) للمواطنين.

-2 الخلل في الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للسكان بصفة العموم، وذلك يرتبط به مستوى التعليم والحالة الاجتماعية وقوة العمل الفاعلة والصحة العامة والدخل، وانعكس تأثيره سلباً على المواطنين نتيجة لارتفاع نسبة وجود العمالة الوافدة في جميع دول مجلس التعاون التي تتصل بها مختلف التحديات في المسارات المختلفة.

-3 انخفاض مشاركة المواطنين الاقتصادية الفاعلة كماً ونوعاً في جميع القطاعات المنتجة لاستحواذ العمالة الوافدة عليها، وذلك مع ارتفاع نسبة البطالة بين المواطنين لمزاحمة الوافد له في جميع فرص العمل المتاحة التي تعيق توظيف المواطن لأسباب مختلفة مع غياب نظام عمل يحمي المواطن في وطنه.

-4 خلل في توزيع السكان بين مناطق ومحافظات دول المجلس جميعها، بحيث تستأثر العاصمة وبعض المدن الرئيسة على معظم السكان، في حين تكاد تخلو المناطق الأخرى من سكانها، بسبب الهجرة للعمل، إن وجد، وإلا فالبطالة مصيره المنتظر.

تتضمن تلك التحديات مجموعة من التفاصيل والإشكالات التابعة لها التي لا يتسع المجال لمناقشتها جملة، وعليه فإننا نحتاج إلى تغيير الكثير من أنظمتنا وتشريعاتنا وسياساتنا المؤسسية، وإلى توزيع استثماراتنا التنموية على المناطق، بما يخدم توجهاتنا التنموية ويعالج تحدياتنا القائمة، وإلا فإنها ستتفاقم وتتراكم سلبياتها بما يؤثر على مستوى الأمان الوطني، ومدى ما نتطلع إلى تحقيقه من مستهدفات تنموية مستدامة، في جميع مواردنا البشرية والمادية في ظل التحديات القائمة.