قرأت في أحد المراجع، أنه رُوِي عن يزيد بن مزيد الشيباني أن عمّه معن بن زائدة أمير بني شيبان، كان يقدّمه على أولاده، الذين كان قد غضب عليهم لمخالفتهم أصول تربيته، واختيارهم حياة الترف، وابتعادهم عن صفات الشجاعة والرجولة والتجلّد التي أحبها، وكان يتّصف بها، فعاتبته امرأته في ذلك، وقالت له: كم تقدّم يزيد ابن أخيك، وتؤخر بنيك!، ولو قدّمتهم لتقدموا، ولو رفعتهم لارتفعوا، فقال لها: لو كنتُ أرفع يزيد لصلة أو قرابة لكان أولادك أحق منه، ولكني أرفعه لفضله، وقد حُرِم أولادُك هذا الفضل بسلوكهم، وسأريك في هذه الليلة ما يخفّف اللوم عني، ويبيّن لك عذري.

ونادى يا غلام: اذهب، فادع أبنائي، وأخبرهم أن أباكم طالبكم الساعة والتوّ، فلم يلبثوا أن جاؤوا يتبخترون في ثيابهم الحريرية، ينشرون حولهم عطورهم الزكية، مرتدين نعالهم السندية، فسلّموا وجلسوا، ثم قال معن: يا غلام، ادع يزيد، فلم يلبث أن دخل على عَجَل مرتديا سلاحه وعتاده، فوضع رمحه بباب المجلس، ثم دخل، فقال له معن: ما هذه الهيئة يا أبا الزبير؟ فقال: جاءني رسول الأمير، فقلت في نفسي إنه لا يريدني إلا لأمر جَلَل، فلبست سلاحي، وقلت: إن كان الأمر كذلك مضيتُ دون تأخر إلى ما يريد، وإن كان على غير ذلك نزعت سلاحي، ونزعُه أمرٌ يسير، فقال معن: انصرفوا في حفظ الله. عندها قالت زوجته: تبيّن الآن لي عذرك.

بدأت بهذه القصة كي أوضّح مدى حزني لِما آل إليه الوضع بالنسبة لكثير من شبابنا العربي، والخطر الذي يدهمهم ويدهمنا معهم، فحين تنقص الرجولة، ويظهر مكانها شباب رَخَوَانِيّ طريّ، لا يهمّه سوى مظهره وهيئته الخارجية، هنا تكون الطامة الكبرى!.

لنتصور المشهد التالي: أخت تتجهز للخروج، فيدخل عليها أخوها، ويطلب منها بعض الأدوات مما تستعمله لزينتها: مظلل للجفون، أو كريم الأساس، أو ربما مظلل الحواجب، وبعض ألوان الشفاه أو الأظافر!.

شاب سال عرقه خلال محاضرة أو تدريب، فساح مكياجه «زينته» على وجهه، فأسرع إلى أقرب دورة مياه كي يصلح ما أفسده الدهر، عذرًا ما أفسده العرق!.

مراهقات يصرخن ويبكين لمجرد وجود فرقة أجنبية، جُلّ أعضائها ممن يرتدون المكياج، ويتصفون بالنعومة والوجوه المنمنمة الملساء حدّ الأنوثة، تعلو رؤوسهم الألوان، يمشون فوق المسارح مشية الديكة!. شابة ترفض عريسا تقدم لها لأن شكله الخارجي رجولي زيادة عن اللزوم، يداه خشنتان، وعلى وجهه تناثرت بعض البثور، ويا إلهي شعرُه بلون واحد!.

بدأ الأمر من المشاهير في كوريا الجنوبية، خاصة ممن أُطلق عليهم رجال الزهور «Flower Men»، وهم مجموعة من الفنانين والرياضيين، الذين قرروا الظهور في إعلانات المكياج للرجال، ومشاهير الفن والغناء ممن مهّد لهذا في بريطانيا مثل «Jagger»،«Bowie»،«Boy George»،«Elton John»، وأميركا «Little Richard»،«Prince»، إلى ما نراه اليوم من معظم المشاهير في عالم الفن والرياضة. فلم يعد الأمر مجرد كحل تحت أو فوق العينين، بل أصبح مكياجا كاملا!.

والتقطت هذا التوجّه شركات المكياج الشهيرة، وقامت بدعمه وتشجيعه، ليس فقط خلال منتجاتها بل خلال الدعاية واستخدام ذكور ليكونوا الواجهة الإعلامية لبضاعتهم. فمنها ما كانت قد بدأت تخسر من نسبة البلايين التي تكسبها مثل هذه الشركات سنويا، ومنها ما أرادت أن تزيد من أرباحها، فأدخلت شريحة جديدة من الجيل «Z» الجيل الذي تلا جيل الألفية!.

لقد كانت تحاول شركات المكياج بيع منتجاتها للرجال منذ عقود، لكن كان أمامها تحدّ كبير، وهو جعل الرجال يصدّقون، بل يؤمنون بأن تركيباتهم السحرية تجعل منهم أكثر رجولة، بل إنها أضافت كلمة «رجل» إلى بداية بعض منتجاتها مثل «Mascara» إلى «Manscara» و«Eyeliner» إلى «Manliner»، وكريم الأساس حوّلت اسمه إلى مرطّب ملون! وليس هذا فقط، بل سخّرت أكثر الطرق فعالية لحث الذكور على شراء المكياج خلال المدونات الحية، إذ تحظى هذه النوعية من المدونات، خاصة التي تدعى «Volgs»، بشعبية كبيرة بين الجماهير الأصغر سنًّا، وتصنع منهم سوقا جديدا لمنتجاتها، بمعنى أن إعلانات المنتجات ستصل الآن -وبشكل متزايد- إلى ما كان سوقا غير مستغلّ؛ الذكور!، وهذا تسويق تكتيكي وقح وغير أخلاقي!.

إن مكياج الرجال هو اتجاه مقلق!، فهو ما سيدمّر مفهوم الرجولة، بل سيربك ويشوّش الأجيال الغضّة القابلة للتأثر!، سينشؤون في عالم غير الذي نعرفه قبل 30 أو 40 عاما، سيخرجون ليشاهدوا رجالا تضع المكياج، ويعتقدون أن هذا هو معيار الرجولة، وهذا بالضبط ما سيؤثر على تجاربهم الأولية في الحياة، ويتسبب في احتكاكهم واصطدامهم مع مجتمعاتهم فيما بعد.

إنهم يدخلون إلى عالمهم خلال تحميل إعلاناتٍ تغيّر مفهوم الرجولة، مثل «أنت رجل أفعال.. لا تعتقد أننا لم نلاحظ ذلك؛ شجاع ومستقل ومتطور، وما تطلبه هو الاحترام، أن تصلك نظرات جانبية من الغرباء وتتركهم.. مفتونين»، وكيف سيحدث هذا؟ بالطبع عن طريق استخدام المكياج!. ويعملون جاهدين على تأليف كلمات الأغاني التي تحوي رسائل إنسانية تخص معاناة أو ما يشعر به المراهق عادة في هذه السن الحرجة، وبغياب التواصل والتفهم والاحترام المتبادل بينهم وبين الأهل والمجتمع الحاضن، سيتعلقون بهم أكثر، ويبدؤون في تقليدهم في كل شيء، من شكل ومظهر وسلوكيات حتى توجهاتهم الجنسية غير السويّة، والمشكلة أن ذلك سيؤثر على المراهقات خاصة، والشابات أيضا، ويغير لديهنّ مفهوم الرجولة، ويبدأن بتفضيل أشباه الرجال على الرجال!.

نحن الذين نخلق الفراغ بيننا وبين أبنائنا وبناتنا، ثم يأتي الآخرون ليملؤوه بكل سهولة، ثم يسيرون بالمجتمع إلى الهاوية!.