يعتمد التعليم بشكل رئيس على رأس المال البشري منذ بداياته الأولى، ولو عدنا إلى عصر الكتاتيب في وطننا لوجدنا أنه يعتمد كليا على وجود المعلم (المطوع كما كان يسمى آنذاك)، والطلاب، ولوح الكتابة الذي لا يتجاوز طوله 60 سم وعرضه 20 سم وله مقبض في الأعلى، وقلم من القصب والحبر أو المداد كما كان يسمى، والمحبرة أو الدواة المصنوعة من الخشب، وبطبيعة الحال المكان الذي يتم فيه التعليم وغالبا يكون في المسجد أو قريب منه أو في مكان مستقل معد لذلك، أو في بيت المعلم نفسه.

ومع تطور التعليم والانتقال إلى التعليم النظامي تطورت الأدوات والتجهيزات والمباني وغيرها من مقومات افتتاح المدارس وتهيئتها لاستقبال الطلاب والطالبات وحدوث العملية التعليمية المقصودة. ومع هذا كله فلا زال وسيظل العامل البشري هو الأهم في هذه العملية (المعلم والطالب). لذلك تظهر هنا أهمية التطوير المتوافق مع متطلبات كل مرحلة من مراحل التعليم والتي لا بد أن تتناغم مع التطور الواضح في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وتجدر أهمية الالتفات إلى مفهوم رأس المال البشري الذي يملكه التعليم ويمثل النسبة الأعلى في مكونات العملية التعليمية ويمثل أساسها والركن الأهم.

وقد ظهر مفهوم رأس المال البشري في الستينات الميلادية ويعود للخبير الاقتصادي ثيودور شولتز ويعكس قيمة القدرات البشرية،حيث أكد شولتز أن رأس المال البشري مثل أي نوع آخر من رأس المال، ويمكن استثماره من خلال التعليم والتدريب والتأهيل وتوقع العوائد والفوائد التي تجنيها المؤسسة، ويؤدي إلى تحسين نوعية العمل ومستوى الإنتاج، والرفع من مستوى المنافسة ومن ثم تحقيق الأهداف المرجوة.

وعند الحديث عن استثمار رأس المال البشري في التعليم العام فقط فإن عدد المعلمين والمعلمات يصل إلى أكثر من (480) ألف معلم ومعلمة، وعدد الطلاب والطالبات يصل إلى أكثر من (5) ملايين و(800) ألف في أكثر من (32) ألف مدرسة، فكم سيكون العدد لو أضيف إلى ذلك التعليم الجامعي. وهذا الرقم الكبير يعتبر مقوما رئيسا لمزيد من الاستثمار في رأس المال البشري، وقد خطت وزارة التعليم خطوات مدروسة في هذا الاتجاه، فما يتم عمله حاليا في وزارة التعليم من تكثيف للتنمية المهنية للمعلمين والمعلمات على سبيل المثال والبرامج والملتقيات التدريبية التي تعقد خلال العام الدراسي أو الصيف والإقبال الكبير من شاغلي الوظائف التعليمية لهو واحد من طرق الاستثمار الأمثل في رأس المال البشري، ويلاحظ تأثير ذلك على المتدربين وينعكس ذلك على أدائهم بعد ذلك. ومع هذا فلا بد من وضع خطة أكبر وأعمق ترتكز على تنمية مستدامة للقدرات البشرية وتطويرها لتكون أكثر حرفية ومهنية وتتوافق مع التحديات المستقبلية التي تتجه إلى التقانة والذكاء الاصطناعي، وهي مرحلة مهمة ستكون واقعا بإذن الله عاجلا أم آجلا، والتهيئة والاستعداد لها مهم بالقدر الذي يمكننا من توقع النتائج ووضع المؤشرات المناسبة لتحقيقها.

وهذا أيضا ينطبق على الطلاب والطالبات في جميع المراحل الدراسية فهم رأس مال بشري متجدد ومعين لا ينضب وقوة بشرية حقيقية يمكن الاتكاء عليها مستقبلا، لذلك فصنع برامج لاستثمارهم مهم وملح في الوقت الحالي، ويمكن أن يتأتى ذلك بوجود خطط استثمارية تبدأ من اليوم الأول لانضمامهم لمرحلة الطفولة المبكرة وصولا لنهاية المرحلة الثانوية في التعليم العام لتبدأ مرحلة التخصص في الجامعة ومنها لمرحلة الإنتاجية بعد ذلك في سوق العمل. هذه البرامج يجب أن تكون مقصودة ومحددة حتى لو كانت تأس يسية أو تعليمية بالدرجة الأولى، وهذا بالطبع يعتمد على الرسائل التي يتولى إيصالها المعلمون والمعلمات للطلاب والطالبات وصولا لأولياء الأمور من ورائهم. وأقصد هنا تحديدا العمل على تعميق الإيمان بضرورة التهيئة لمهن المستقبل والتركيز على المهارات الفنية والمهنية والتقنية وأن هذه هي خيارات المستقبل التي لا بد من الاستعداد لها منذ الصغر. وهذا يتطلب المزيد من التخطيط والعمل المشترك مع كافة الجهات ذات العلاقة ليكون هناك مسارات أكثر تخصصا تبدأ في مراحل التعليم العام وتتصل بالمرحلة الجامعية ومن ثم لسوق العمل، وفي هذا السياق نجد أن هناك مبادرات قامت عليها وزارة التعليم منها مبادرة (ريادي) التي تركز على ريادة الأعمال وتحفيز الطلاب والطالبات على تقديم مشاريعهم الاستثمارية وهم لا زالوا في فصولهم الدراسية، وهناك مبادرة الورش الفنية (ماهر) التي تركز على إكساب وتزويد الطلاب والطالبات بالمهارات الفنية والمهنية والتقنية وتساعدهم على خوض غمار سوق العمل والتعرف على المهن المناسبة، كما أن هناك برامج داعمة من جهات أخرى يمكن الشراكة معها كبنك التنمية الاجتماعية على سبيل المثال الذي يدعم المبادرات النوعية ويتبناها ماديا.

كما يمكن العمل على مسارات أكثر تخصصية للطلاب والطالبات الموهوبين وإيجاد محاضن للإبداع مع الجهات ذات العلاقة ليتم التحول من مجرد الاعتراف بالموهبة إلى تبني المشاريع الإبداعية وتحويلها إلى مشاريع استثمارية منتجة للمعرفة والتقنية والخدمات.

وفي الوقت ذاته نجد التوجه الكبير ضمن برامج الرؤية الطموحة (2030) وخاصة برنامج تنمية القدرات البشرية الذي يهدف إلى "تحسين مخرجات منظومة التعليم والتدريب في جميع المراحل الدراسية من التعليم المبكر وحتى التعليم والتدريب المستمر مدى الحياة للوصول إلى المستويات العالمية من خلال برامج تعليم وتأهيل وتدريب تواكب مستجدات العصر ومتطلباته وتتواءم مع احتياجات التنمية وسوق العمل المحلي والعالمي المتسارعة والمتجددة ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، بالشراكة بين جميع الجهات ذات العلاقة محليا ودوليا"، كما يسهم في تطوير المعلمين والمدربين وأعضاء هيئة التدريس، ويستحدث سياسات ونظم تعليمية وتدريبية تعزز من كفاءة رأس المال البشري بما يتوافق ورؤية المملكة (2030) منطلقا من الأسس الإسلامية والتربوية والاجتماعية والمهنية ومحققا للشمولية والجودة والمرونة ومقدما خدمة لكافة شرائح المجتمع وسيكون له دور في تعزيز مكانة وريادة المملكة إقليميا والرفع من مستوى تنافسيتها دوليا.

ولذلك ومع تكامل الجهود ووضع الخطط المناسبة سنجد أن استثمار رأس المال البشر في التعليم سيكون فرس الرهان لتميز بلا حدود لوطننا بإذن الله في جميع المجالات في ظل قيادتنا الرشيدة وخططها الطموحة.