من أكثر المفاهيم التي يعتريها إشكال التعريف والفهم لدينا، هو مفهوم الثقافة، تماما مثل مفاهيم الحرية والليبرالية والترفيه والمرأة، والتي تحتاج إلى الممارسة الواقعية ليتحدد معناها بشكل أدق في ذهن الممارس والمتلقي.

لكن الثقافة -كمصطلح- له شق إبداعي وآخر أنثروبولوجي. الإبداعي ما يتعلق بالإنتاج الأدبي المقروء والمسموع والمرئي، كالشعر والسرد والمسرح والفنون التشكيلية والسينما والعمارة، وغيرها.

والأنثروبولوجي «الإنساني» يتسع ليشمل اتجاهات أكثر، من لغة وتراث وحضارة وأخلاق وقوانين وعادات وتقاليد، لمجتمع محدد في مكان محدد وأزمان محددة.

إذًا، فالثقافة الإبداعية هي جزء من مكوّن كبير إنساني يؤطره وينبع منه، ويتأثر به في نتاجه وتواتره وامتداده وتاريخه.

الثقافة في المملكة العربية السعودية في شقّها الإبداعي، وخلال السنوات الماضية، كانت بكل تأكيد تتحرك وتبدع وتزدهر، في إطار يقترب حينا ويبتعد أحيانا من الشق الإنساني.

الصورة الذهنية للمثقف لدينا، وغالبا الواقعية، كانت لا تخرج عن إطار كونه قارئا جيّدا ومتكلّما لبقا، لديه غالبا إصدارات أدبية أو فكرية، وقد يأخذ الحماس هذا المثقف فيلوي عنق الكلمات والأفكار ويتصومع في برج بعيد عن واقع الحياة الاجتماعية التي يعيش فيها، ويسير وفق النسق السائد الذي ضرب للثقافة الإبداعية لدينا حدوده. فالموسيقى وصناعة السينما والمسرح -على سبيل المثال- كانت بعيدة عن المشهد الثقافي، وغير مطروحة في المناسبات الثقافية، ولا الاهتمام لدى المثقفين، ونتيجة للتحول الكبير الذي تشهده المملكة -مؤخرا- منذ انطلاق رؤية المملكة، أصبحنا نرى فعاليات خاصة بالمسرح أو السينما، وأخرى تكون للشعر أو القصة بصحبة الموسيقى والغناء. وينسحب القول هذا على الاهتمام بالآثار والتراث العمراني والرسم والنحت والتصوير، الذي كان إما يُحدّ أو يُمنع التعامل معه كمصدر ثقافي أو إنساني، لأسباب دينية، وأصبح الآن محط رعاية واهتمام وداعما للاقتصاد البديل.

هذا التحول صاحبه -وسيصحبه مستقبلا- تحول اجتماعي لا يخرج عن إطار الثقافة الإنسانية، كالأزياء والعمران واللهجات والرقص.

ستؤثر هذه التغيرات والأنماط المعيشية بطريقة ما في نوعية الأفكار التي تقدم في قوالب أدبية وإبداعية، وهذا قد يحدث إرباكا بشكل أو بآخر في القديم الكلاسيكي الثابت.

والصورة النمطية للثقافة والمثقف ستتغير أيضا، لتخرج من دائرة المثقف الجالس جوار كتبه وغليونه وأضوائه المغلقة، المتقعّر في كلماته وأساليبه وتعامله، إلى المثقف الأكثر انفتاحا على المجتمع بمختلف مكوناته، والذي يغنّي معهم، ويمثل وهو يقرأ قصصه، أو يرقص على إيقاع نصوصه الشعرية.

الانخراط في الثقافة الأنثروبولوجية التي من الممكن أن تكون «شعبوية» إلى حد ما، لم تكن المؤسسات الثقافية لدينا قادرة على تجاوزه والتفاعل معه، لو لم تتدخل فيه جهة أخرى ألغت الحدود وقرّبت المسافة، وجعلت غير المألوف مألوفا ومطلوبا ومرتادا، من خلال فعالياتها وأنشطتها ومواسمها، التي تذيب من خلالها جليد الفردانية المتراكم منذ سنوات طوال تحت سلطة المنع والإقصاء، وأعني هنا هيئة الترفيه ومناشطها المتنوعة.

هيئة الترفيه، وخلال سنوات قليلة، استطاعت أن تحضر أسماء عالمية وكبيرة في الموسيقى والغناء والتمثيل، على سبيل المثال، أمام حشد هائل من الناس بمختلف مشاربهم واهتماماتهم -وتكرار حضور الشيء مدعاة لألفته- وهو ما لا يستطيع أن يتخيله مثقف مبدع -هكذا يتخيل نفسه- أن يراه لحشد من الكتاب والمفكرين والشعراء والروائيين والمبدعين أمامه وأمام الجمهور العام، يقدمون مادة فكرية أو أدبية في إطار خارج عن المألوف.

كمؤسسات رسمية، الشعرة بين وزارة الثقافة وهيئة الترفيه خفيفة وقصيرة جدا، فالأخيرة تصب كثيرا ينابيعها من فعالياتها في بحر الأولى، وإن كان موجها ساكنا أمام قوة تدفق الأخيرة و«أكلها للجو».

الفنون الثقافية الترفيهية توجّه التفكير العام نحو فضاءات التعددية، والتذوق لمختلف المشارب العالمية والمحلية، والاهتمام بها واستمرارها يخرج عن كونه ترفيها مجردا إلى أجل الترفيه. بينما الفنون الثقافية الإبداعية هي التي ترسم ملامح المرحلة -وما سبقها- والتي ينبغي أن تكون القوة الناعمة التي تظهر للخارج، بينما الأخرى تغير بكفاءة في الداخل، وتستحق أن تكون العناية بها وإثراؤها وتبني أفرادها في مختلف الأشكال الإبداعية، بذات القوة والتركيز والتأكيد.

التحرك المؤسساتي هو ما سيخلق الحركة لدى المثقف النمطي الساكن، والمتذبذب بين انغلاق القديم وهُوّة الجديد. فهل آن الأوان لأن تكون الثقافة والترفيه وزارة واحدة؟!