التجديد تنوع (مجتمع) لا شمولية (جماعة)، فالمجتمع في أي دولة حديثة يختلف عن أي جماعة، فالمجتمع متنوع الملل والمذاهب والمواهب والملكات والأمزجة، والجماعة تخاف التنوع والتعدد، ويربكها حتى الاختلاف الطبيعي في الأمزجة، لدرجة يجعل مفاهيم الجماعة عن التماسك الاجتماعي تتجه إلى (الشمولية) بأوهام السيطرة على الضمائر وإحصاء الأنفاس، بينما مفاهيم المجتمع الطبيعي تتجه للتعددية والتنوع في نطاق الوحدة الوطنية بمعناها الحديث، وللأسف حتى المعنى القروسطي الذي عاشه الناس في مجتمع الأندلس مع المختلف عنهم ديانة واعتقادا عجز عن إدراكه الإسلام السياسي في داعش والقاعدة، ولم يدركوا منه سوى هستيريا الإماء والجواري وأسواق النخاسة، لأن التفكير الأصولي ليس تفكيرا متطرفا بقدر ما هو مصداقية الذات مع الواقع، مصداقية الفهم مع التطبيق، فكانت الفاجعة في أن التطبيقات بشعة ولا يصح نسبتها إلى أي دين في القرن الحادي والعشرين.

التجديد الديني بأي اتجاه (غير فرداني) هو لعبة جديدة من ألعاب (الإسلام السياسي)، فالمسلم الفرنسي ليس بحاجة لمعطيات تسوقه لفصام نفسي ما بين جذوره العميقة في فرنسا بين أب مسلم وأم مسيحية، وأخ لا ديني، بل يشعر بأن فردانيته الدينية دليل على حيويته الاجتماعية، وليس انعزاله واضطراره إلى ما يتعطش إليه الإسلام السياسي، من خلق مزاج باحث عن (غيتوهات الجماعة) التي يتم من خلالها تخصيب يورانيوم الإسلام السياسي من جديد في رؤوس الأتباع الجدد.

منذ عهد الرسالة الأول، لم يوجد فرز اجتماعي على أسس دينية بين أصحاب الديانة الواحدة، بل كان الأنصار والمهاجرون وغيرهم من فرقاء (صحيفة المدينة)، حتى بدأت الصراعات السياسية بعد ذلك فنرى أشكالا وألوانا من التصنيف، وأي تجديد ديني يضيف إلى هذه الفرق الدينية فرقة أخرى فلن يكون سوى معطى سياسي جديد يدعم قسمة ضيزى جديدة، تعيد لنا صراعات المعتزلة مع أهل الحديث، وهذا ارتكاس تاريخي لا يريده من عاش بعقله وقلبه معطيات القرن الواحد والعشرين على مستوى مفاهيم السياسة الدولية، أو حتى مستويات عالم الرأسمالية الذي أنتج حتى ما سمي (إسلام السوق).

هل نتوقف عن فكرة (التجديد الديني)؟ قطعا لا، لكنه تجديد باتجاه (الإسلام الخاص/ الفرداني)، فأي (إسلام عمومي) يعني (إسلاما سياسيا) مهما تزيا بزي الحداثة والسماحة، فلا بد أن يرتطم تجمع (الإسلام العمومي الحديث) بتجمع (الإسلام العمومي الرافض للتحديث)، ليستعيد كل فريق تراث الأقدمين في امتلاك الحق، بينما التدافع المطلوب في (الدولة الحديثة) يكون بين (عقيدة التنمية البشرية) و(عقيدة التنمية الطبيعية) بين (عقيدة التنمية الشاملة) و(عقيدة التنمية المستدامة)، أما قلوب المواطنين تجاه خلاصهم الروحي في الدولة الحديثة فليست محلّاً للتنقيب والتفتيش والمساءلة من قبل أحد، وليست محلاً للنقاش العمومي مما يثير صراعات لا تقدم للدولة الحديثة أي شيء نهائيا، فمعركة الجمل أو صفين أو معركة داعش مع القاعدة، أو حزب اللات على مستوى التنمية الحديثة في هذا القرن لا تعطينا أي مؤشر حضاري أو تنموي باتجاه خطط التنمية أو تطوير البلد، بقدر ما يعطينا شاب نابه درس في هارفارد أو أكسفورد علماً، وعاد لنا بوعي عميق يستنبت من تربة أرضه على المستوى الثقافي والاجتماعي، ما يدعم التوجه الاقتصادي الأفضل، خدمة لعقيدة التنمية التي تتطور البلاد بها، أما صلاة الفرد المسلم فقد جعل الله لها الأرض مسجدا وطهورا، فحتى الصلاة من يسر الدين ليس من شرطها المحاريب والمآذن، والماء في الوضوء ينوب عنه التيمم بالتراب إذا انقطع، الدين عامرٌ بالقلوب، أما الدنيا فعامرة بالأيدي والعقول، فمهما كانت آيات القرآن تكرر على القلوب معنى (الريح لواقح)، فلن يخرج الرطب الجيد إلا بتأبير النخل عبر الأيادي الماهرة العارفة في مواسم محددة تعرفها العقول النابهة، ولهذا قال الرسول الكريم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).