«عقد التسعين، الجذور»

التسعينات عقد زمني غريبٌ سعوديًّا، كانت عشرُ سنواته وكأنها نفق دخل منها الإنسان السعودي تحت الأرض، وظل يجري في هذا النفق طويلا، ليخرج منه إلى العقد الزمني التالي، كي يرى الضوء والشمس.

بل عدّه كالمرجل الذي دخلت فيه العقلية السعودية وذهنية المجتمع السعودي لإعادة التشكّل الحر، وفك القولبة، والتحول بالصهر إلى إرهاصات ومقدمات الحالة التي يجب أن يكون عليها السعودي.

كبّلنا عام 1962 بقيد الصحوة، والذي بدا خيطا رفيعا حريريّ الملمس، وبدأت تلك النعومة بالتحول التدريجي من عام 1967حتى تغوّلت فيما بعد 1979، بسبب ثورة ملالي إيران النكدة، وبسبب آثار احتلال جهيمان للحرم المكي الشريف، ليطل علينا أواخر القرن العشرين بحادثة غريبة، لم يشهد لها المجتمع السعودي مثيلا منذ تأسيسه في الطور الثالث من أطوار الدولة السعودية المجيدة، وهي حادثة احتلال العراق للكويت، والتي كانت محكّا أساسا لتمايز الصفوف، وفرز من هو معك ممن هو ضدك، في عملية خذلان، منيت به الدولة والمجتمع على حد سواء، فأشباح الحرب تطل برؤوسها الشيطانية من كل ثقب، وهناك من يفري في جسد المجتمع، ويمزّق إهابه، ويشق خاصرته التي كانت رخوة بعض الشيء.

«عقد التسعين، الساق والأغصان والأوراق»

عقد التسعين، بدأ بحرب عاصفة الصحراء، وتوالت فيه الأحدث الكبيرة البالغة حتى منتهاه، وباستعراض سريع مجتزئ لأبرز الأحداث فيه إلى ما قبيل منتصفه فقط، ستجد أن أبرز ما مرّ فيه على السعودي -بعد عاصفة الصحراء- بَدْءُ ما يعرف بالعشرية السوداء بالجزائر في 1991، وفي العام ذاته بدأت الحرب الأهلية الصومالية، وفي العام ذاته -كذلك- تفككت جمهورية يوغوسلافيا إلى جمهوريات «سلوفينيا، كرواتيا، مقدونيا، البوسنة والهرسك»، واندلاع سلسلة من الحروب المعروفة في تلك البقعة البعيدة من العالم، وفي العام ذاته اندلعت الحرب الأهلية الصومالية، وفي عام 1992 سقطت كابول في يد المجاهدين الأفغان، وفي عام 1993 تم توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفي العام ذاته تم تفجير مركز التجارة العالمي، وفي عام 1994 ظهرت حركة طالبان، واندلعت حرب الشيشان الأولى.

وفي عقد التسعينات أصبحت أجهزة الحاسب الآلي الشخصية أكثر انتشارا في المنازل، وظهرت الصحون الفضائية اللاقطة، وأصبح استخدام الهواتف المحمولة على نطاق واسع، كما أصبح من الشائع التواصل عبر خدمة الرسالة القصيرة، ومن منتصف عقد التسعينات أصبح البريد الإلكتروني منافسا شرسا للفاكس، وظهر الإنترنت الذي قرب البعيد، ووصل المنفصل.

كل هذه الأمور أثّرت في المشهد السعودي، بسبب نفخ الصحويين في هذه الموضوعات وتكرسيها، وتكثيف أثره غير المرئي أصلا، لتجييش المجتمع السعودي لأمر قد دُبّر بدهاء وخبث.

وتظل حرب الخليج الثانية، حدثا مفصليا بالغ الأهمية والأثر في التاريخ السعودي، إذ أبرزت الحرب المعارضة الصحوية وأخرجتها من كمونها، إذ إن الصف المشيخي السعودي كان -كما يبدو- متوحدا ومتراصا، في ظل زعامة الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية حينئذ، ولا تظهر للمراقب البعيد أي فرقة أو انقسام في الصف، على الرغم من إدراك المراقبين القريبين وجودَ تمايز واضح وجليّ، حتى وإن كان تحت السطح، وكان لا بد لهذا التمايز أن يظهر على السطح، إلا أنه ينتظر حدثا أو قضية ما، ليطل برأسه، فجاءت أزمة الخليج لتكون أفضل بيئة، وبقعة ضوء تسلط على هذا التمايز، إذ انقسم الصف إلى قسمين: على رأس أولهما كبار المشايخ، والآخر تمثله الصحوة وقياداتها، كان -وكما هو متوقع- ذهاب الشيوخ الكبار في اتجاه التوجه الحكومي، ولكن الذي لم يكن متوقّعا للمراقب العادي أو رجل الشارع البسيط، هو بزوغ المعارضة السياسية لقيادات الصحوة، خلال معارضة الحل الحكومي لمعالجة أزمة الخليج الثانية.

«عقد التسعين، الثمار»

المؤثر الأكبر في المجتمع السعودي اليوم، هم رواد موقع التواصل العالمي الأشهر خليجيا «تويتر»، وغالب الفاعلين فيه اليوم، كان التسعينات مسرحا لطفولتهم المبكرة أو بعضا منها، ومع ذلك هم اليوم من يقوم بكل جدارة واقتدار على تفكيك تكلسات الثمانينات والتسعينات، إذ كانت العقود الأربعة الماضية عصيبة على كل سعودي وسعودية، حتى أولئك المنخرطون في عملية محاصرة مباهج الحياة ومباحاتها، وإحالة حياتنا إلى جحيم مصغر.

حتى انبرى لها فارس الحلم السعودي الأمير محمد بن سلمان، ليستردّ المجتمع السعودي من اختطاف طويل، بفضل الرؤية الريادية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز «أيده الله».

كان الأمر -ببساطة متناهية- يعتمد على التخلص من صُنّاع الفكر التديني الصحوي السعودي في العقود الخمسة الماضية، وهم المحمدون الثلاثة وأتباعهم من السعوديين، أعني «محمد قطب، ومحمد سرور بن نايف زين العابدين، ومحمد أحمد الراشد»، وإطلاق الحياة والمباهج المباحة، وتحرير المرأة السعودية من كل قيودها وعقدها وعوائقها.

«بالتسعين، الذكريات الماضيات»

عالم الاجتماع القادم الشاب عبدالله بن حمد الزيد، أحد شباب الوطن المعجون بمائه وهوائه، أطلّ علينا بكتاب صدر حديثا عن دار مدارك للنشر، تحت عنوان «بالتسعين»، والكتاب عبارة عن سيرةٍ وطرفٍ من اعترافات وحياة شاب سعودي عاش عقد التسعينات، مراهقا، في فورة عواطفه، مشبوب المشاعر، رخو الوجدان، سريع التأثر والتقلب، ينتمي إلى الطبقة المتوسطة التي تشكّل السواد الأعظم من السعوديين.

وخير من يصف الكتاب والحال والمقال، هو عبدالله نفسه، إذ يقول عن كتابه وبكلام بليغ: «وتمرّ بنا الحياة تمخر عباب الزمن، وتتصاعد أنفاسنا كدخان تحرق ملايين السعرات مثل قطار شحنٍ ضخم، نسير فلا نشعر بالزمن إلا كطيف ساحر.

إنه الزمن، ذلك المخلوق العجيب الذي يطوّقنا بذراعيه مثل راقص محترف لا نكاد نشعر به!. يمر بنا الوقت. تتسارع الأحداث، تركل خلف ظهرها كثير من الأفكار والمشاعر المختلطة. نلتقطها لنزين بها رفوف ذكرياتنا الساحرة.

«بالتسعين»، اعترافات وسواليف شاب سعودي من عائلة من الطبقة المتوسطة، عاش جزءا من حياته «بالتسعين» بكل تفاصيلها وسخريتها وأحداثها وخيباتها وانتصاراتها، «بالتسعين»، ورقات أضعها بين يدي هيبة اللحظة وعبقها».

ويقول: («بالتسعين»، هي أيضا اللحظة التي تدل على ما مرت به حياتي الشخصية، وبلادي المملكة العربية السعودية، من تحولات مهمة ومصيرية خلال التسعينات من القرن الماضي).

إذًا فتسعين الأستاذ عبدالله الزيد، كانت اعترافاته وتأمّلاته الشخصية، لحياته خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، إضافة إلى مشاهدات ذكية، ورصد لمّاح للعقد الزمني المهم في حياة السعودية: الدولة والمجتمع والمواطن.

تنقّل بنا الأستاذ عبدالله الزيد عبر مضافات كتابه، يسقينا ويطعمنا من كل ما لذّ وطاب، فمن «ثعبان الخطيئة» إلى «الطهر ريشة» و«عاش واقفا» إلى «دين الحب» مرورا بكل من «شنب للبيع» و«ختم على بياض» وختاما «بنهاية حقبة التسعينات»، وغيرها من الموضوعات التي تشدك معها إلى آخر نفس.

فهو كتاب قدم لك التسعينات على طبق من بانوراما، وزوى لك أكثر من 3600 يوم في 150 صفحة.

شكرا عبدالله، شكرا مدارك، وشكرا لله أننا سعوديون.