ومع أن تلك الظواهر والاتجاهات خيارات، وقد تكون اختبارات، ولكنها ليست مسارات إجبارية، أو مناهج ملزمة، كما يصورها البعض، وربما كان هؤلاء جزءا من هذه المنظومات بإرادة مقصودة، أو تبعية غير واعية، فوجدوا أنفسهم فجأة خارج إطار المجتمع الذي بدأ ينبذها، أو ينابذها، فلم يتمكنوا من الانخلاس منها كغيرهم، وقد يكون بعض المندسين المخدّرين بفكر وإيديولوجيات تلك المنظومات - بين الحين والآخر- يحاولون بعث رفات حقبة قد خلت، بالاتجاه نحو خلق فتنة، تتربص– حسب زعمهم– بما بقي من جذوة الخير التي يحملونها، فيتهمون بعض مؤسسات الدولة بفرض اتجاهات، يدّعون أنها وسيلة للانحلال، والانحدار القيمي، فينشأ لذلك تيار متطرف على النقيض، يحاول الفكاك من قيوده، ليرتمي في قيود أخرى، ليس للجهة أو الأفراد دخل في صناعتها، أو نية فرضها، ولكن الصراع بين مرحلتين، أدّى لصدمة، لم يحسن البعض التعامل معها، ولم يتمكنوا من استيعابها وتصنيفها في باب الخيارات التي يتاح تركها، أو فعلها، دون أن يلزم الآخرين بما تشرّبه من الفكر الجمعي الذي يجب لزومه فيما قبل.
إن واجبنا يكمن في اختيار النموذج التربوي الذي نرضاه لأبنائنا وبناتنا، وأن نزرع فيهم بمسؤولية كل القيم والأخلاق والسلوكيات التي تمثلنا، وتدلّ على حسّنا الديني، والوطني، والاجتماعي، وندرك أن خياراتنا لا تتحملها أي جهة، أو مؤسسة، أو فرد، بل نحن بأنفسنا من يختار، وأن فشل خيارنا يدلّ على ضعف قدراتنا على الإقناع وحسن التوجيه، وقلة مهاراتنا في التعامل الأمثل مع رغبات أبنائنا وبناتنا، وفق تطورات الزمن الحديثة، ونتيجة لذلك يتجه البعض نحو التجييش والتأليب وإثارة الرأي العام، حال بروز أي سلوك نشاز ذي صلة به، وهذا تبرير الفاشلين، وحيلة العاجزين. فعلى سبيل المثال في مباراة رياضية، أو مناسبة ترفيهية، أو قيادة سيارة، من المسؤول عن أي ظاهرة إن حصلت كرقص شائن، أو معاكسة رخيصة، أو مخالفة للذوق؟ هل نحملها المؤسسة المنظمة، أو الجهة المخولة بفرض العقوبة، أم أنها تربية الأسرة، وغراس القيم التي لم تنجح في بناء سلوك يرفض مثل هذه التصرفات؟ لنعود فنجعل بسببها الانغلاق مطلبا، نتخذه وسيلة لستر إخفاقنا، وسبيلا لقمع نواتج الفشل التي برزت منذ البداية، رغم مراهنات البعض أنها سبيل الخيرية، والنجاة إلى الأبد، فتكشفت الأقنعة، وظهرت هشاشة الشكليات، التي لا تعدّ منهجا بل منتجا.
وسط هذه العاصفة التي تطوّح بأسباب الإخفاق على الماضي بكل قسوة، وعلى الحاضر بكل فجاجة، لا يمكن قبول الآراء المتشنجة، ولا التنصل عن مسؤولياتنا الفردية «فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» وكل هنّة قيدها بيد فاعلها، فالغلو طرف بغيض، ينشر الكراهية والدمار والقتل والانفصام والقطيعة، كما أن الانحلال تطرف كريه، يورث الفجور والانفلات والإفلاس والانحدار، وبينهما تربية حسنة، وتوعية متزنة، هي مسؤوليتنا، لتبدأ من داخل الأسرة، وتنتهي في المحصلة النهائية لذوق المجتمع وسلوك أفراده، بعيدا عن المهاترة والتعبئة والخصومات، فالتربية خيارنا الأمثل، وأداتنا الفاعلة في تجاوز بعض المخالفات التي تصدر بفعل قصور أدوارنا، فلو أدّى كل فرد واجبه في رعاية من يعول، وتوجيههم نحو المثل الإسلامية، والقيم الإنسانية، لما وجدت فئام التطرف- بكل أشكاله- حاضنة تنمو فيها بذرة شرها. والله يقول مؤكدا أنها خياراتنا نحن: «قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ».