منذ أكثر من عام تم طرح النظام الجديد للجامعات كمقترح، قبل إقراره كنظام معتمد للجامعات، وذلك للاستفادة مما يطرح حوله من نقاش علمي جاد ورؤى مختلفة لجوانب متعددة من مضمونه، في ضوء تقييم الواقع الحالي للجامعات، وما يجري في أروقتها وما تفرزه مخرجاتها العلمية من كفاءات، وما يقدمه منسوبوها من مشاركات علمية ومستوى جودة في الأداء الأكاديمي وغيره، وذلك علاوة على طرحه في مجلس الشورى الذي أبدى ملاحظاته حوله، لما تضمنه من تغييرات هيكلية مهمة في النظام المؤسسي، وما يتعلق به من الأخذ باستقلالية الجامعات أسوة بدول العالم المتقدم، والتوجه نحو الاعتماد على توفير مداخيل مالية استثمارية ووقفية للجامعات، لتكون الممول الأساسي لميزانية الجامعات، إلى جانب ما تتلقاه من دعم من ميزانية الدولة.

في إطار ما نلمسه من إشكالات إدارية ومؤسسية وأكاديمية في جامعاتنا وبمستويات مختلفة، وفي ظل ما تنشره مراكز التقييم العالمية عن مستوى أداء جامعاتنا، بناء على ما تعتمد عليه تلك المراكز من مؤشرات ومعايير دولية، وفي معترك ما نشهده من اختلالات وإخفاقات في السياسات التعليمية ومخرجاتها بصفة العموم، وفي ضوء ما نسمعه ونشاهده من تغييرات مفاجئة في قراراتنا التعليمية ما بين آونة وأخرى، السؤال المطروح، ما الإستراتيجية المستهدفة من سياسة التعليم عندنا؟ ما أهدافه؟ ما فلسفته؟ ما النموذج الذي نسعى إلى تحقيقه وبلورته كنموذج وطني؟ وما التجربة العلمية الدولية التي استحقت أن تكون نمطا أو مثالا يُحتذي به أو يُستفاد من تجربته؟ أم أننا في منأى عن ذلك كله، ولنا حقل تجاربنا الخاصة التي نبني عليها سياساتنا التعليمية، ولذلك هي متغيرة ما بين عهد وزاري وآخر، لتُبنى سياساته ومحتواه بناء على رؤى فريق عمل يعاصر العهد الجديد!

يتمتع كثير من الجامعات العالمية المعروفة بالاستقلالية المؤسسية والمالية والإدارية، ولها نظام جامعي معروف ومدون وموثق بتفاصيله المهنية والأكاديمية والمالية والإدارية، بما يكفل نظاما مؤسسيا ثابتا يخدم تطلعات الجامعة وأهدافها لسنوات، ويستند على إستراتيجية علمية ومؤسسية تنظم عملية الأداء في كافة مضمونه وتعمل على تطويره ما بين حين وآخر، وتحتكم لقانون حوكمة ومساءلة يشمل الجميع تحت مظلته، حتى لا تكون هناك اختلالات أو تجاوزات في الأداء بمجمله.

عندما شرعنا في الأخذ بمبدأ استقلالية الجامعات، وأخذنا بالمناداة لذلك، بحجة أن ارتباط الجامعات بجهة مؤسسية عليا يعيق من تطورها، ويخضعها للبيروقراطية التي تحد من إمكاناتها وصلاحياتها في الأخذ ببعض القرارات التي تعتبر شأنا داخليا، وإن إدارة الجامعات أكثر قربا من واقعها وإشكالاتها، وهي المؤهلة أكثر من غيرها في معالجة تحدياتها وإصدار قراراتها، السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم نأخذ النموذج الغربي ونطبقه بحذافيره، بجميع مضامينه وآلياته المؤسسية المنفذة، وبما تستند إليه من مقومات ومعايير تؤهلها للاستقلالية؟ لماذا نكتفي بأخذ الشعارات والعناوين البراقة دون المحتوى الأهم؟ إلى متى نستمر نجري خلف مصالحنا الخاصة وتطلعاتنا الإدارية في الاستحواذ على المناصب وغيرها، ونهمل المصلحة الوطنية العليا؟ إلى متى تحكمنا الأهواء والعلاقات والمصالح الذاتية بعيدا عن الجوهر؟ إلى متى نتمسك بالقشور ونتجاهل اللُّب؟ أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟! ألا نشاهد دول العالم المتقدم حولنا، تتنافس في السباق العالمي نحو الإنجاز العلمي؟

فعلى الرغم من أن الدولة تنفق المليارات من الأموال لخدمة التعليم وتطويره، وتضع الخطوط العريضة والإستراتيجية الشاملة للتنمية، وتبني الرؤى البعيدة المدى وفق خطط تنموية متوالية، لقياس الإنجاز في مختلف القطاعات، وتقدم العديد من المبادرات التنموية المختلفة، وتطرح برامج التحول الوطني المتعددة، وتهتم بمتابعة تنفيذها في مختلف القطاعات المعنية، لترجمة رؤيتنا إلى برنامج وطني نلمس منجزاته ونشهد مخرجاته بأيْدٍ وطنية، تشارك في بناء الصرح الوطني، إلا أنه تظل مسؤولية إدارة القطاعات المختلفة في الدولة، في عُهدة مسؤولي القطاع ذاته، ليضعوا خططهم الإستراتيجية المناسبة للتنفيذ، بما بخدم تحقيق تطلعات القطاع الذي يتحملون مسؤوليته، وينفذون ما يتضمنه مشروعه من مواد ومنهجية وخطط تستند لميثاق مدروس، شارك في بنائه مجموعة من نخبة المتخصصين، ووضع خطة عمله ثلة من الخبراء في المجال، للمساهمة في تحقيق تطلعات الوطن، وذلك في إطار خطة إستراتيجية شاملة تستهدفها الدولة من قطاعاتها المختلفة، وبذلك تعمل كافة القطاعات كمنظومة متكاملة لتحقيق الرؤية.

وعليه فإنه كان من الأفضل لوزارة التعليم، قبل أن تسعى إلى طرح النظام الجديد للجامعات للتنفيذ، أن تسعى بداية إلى إصلاح النظام الداخلي للجامعات في مضمونه القائم، وتعمل على تنقيته من شوائبه وتجاوزاته، من خلال حوكمته ومساءلته في جميع مسؤولياته، بالتعاون مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ونخبة من المتخصصين علميا وتربويا وإداريا، لضبط الأداء في الجامعات وفق معايير دولية ومؤسسية عالية المستوى، تضمن تصحيح مسارها المستقبلي، قبل أن تستقل وهي على عهدها المعروف والذي لم يؤهلها، إلاّ لدرجات متأخرة في السباق العالمي نحو التميز الأكاديمي.

مما لا شك فيه أن إصلاح النظام المؤسسي والأكاديمي للجامعات وضبطه يعتبر من الأولويات التي كان لا بد من الأخذ بها قبل تنفيذ النظام الجديد للجامعات، حتى وإن اقتصر تنفيذه مبدئيا على ثلاث جامعات، لأن ما فاتنا من السنوات يكفي لأن نتعلم منه، بأن سياسة التعليم ليست حقل تجارب مفتوحا، وأن التجارب مكانها المعامل الخاصة بها وليس الوطن ومؤسساته، وأننا لا نعيش في كوكب منعزل، وأنه بإمكاننا اختزال السنوات والتجارب الارتجالية بالاستفادة من تجارب من سبقنا في الميدان من المتميزين، وستثبت الأيام أن النظام الجديد لن يصلح مؤسسات قائمة باختلالات سابقة متأصلة، وأنه لن يعالج تحديات متجذرة، فهل يُصلح العطار ما أفسده الدهر؟!