في المقالات السابقة، كان الحديث عن الحياة في أوروبا، إبان ما يُعرف بحكم الكنائس وهجرة الناس من هناك للبحث عن الحياة الجميلة، البعيدة عن الوعد والوعيد، وكيف تشابهت مع محاربة السعوديين للفكر الصحوي الذي شوّه جمال الحياة السعودية، حتى قاد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حملة لعودة المملكة العربية السعودية إلى جمالها السابق. واستكمالا لما توقفنا عنده في المقال السابق:

... وأصبح هؤلاء الأطفال يُسمح لهم بسماع الأغاني في المدرسة، ولم يأت إليهم أحد ليؤكد لهم أنه كُتب عليهم أنه سيصبّ في آذانهم صهارة تحرق كل ما في رؤوسهم، لتخرج مع آذانهم الأخرى، لأنهم سمعوا معازف ولو بالخطأ، حتى علموا أن هذه الأغاني والموسيقى، تدخل فيها عدة فتاوى، بها من التخفيف أكثر مما بها من التشديد، ولم يعد الطفل يشعر بالتناقض كما كان سابقا.

مثلما كان أبوه يشعر حينما حُرّم عليه التصوير، ويجده في كل مكان حوله، وحُرّم عليه سماع صوت المرأة الأجنبية، ويجد نفسه مجبرا على التخاطب معها في كل زاوية، وحُرّم عليه رسم ذوات الأرواح، ويجد الرسومات في كل غرفة تقريبا و.... و....و من المتناقضات التي بدأت تتلاشى في هذا الوقت. وسمح لوالدته بأن تقود سيارتها لتوصله إلى المدرسة، بعد أن كان مَن قَبله يعتقد أنه من المحرم ذلك، وسُمح له بخوض غمار الفن بأنواعه، وحضور المسرحيات والأفلام الأجنبية، والثقافات المختلفة، وأصبح يرى المرأة بهيئة مختلفة عما كان يراها سابقا، بعد أن رأى ما لديها من قدرات حينما أتيحت لها الفرصة.

فلو راقبنا هذا التحول، وكيف ستكون نتائجه على مستقبل الإنسان السعودي، وبيئته المحيطة به، وكيف ستتحول الأنثروبولوجيا في الأعوام القادمة، وكيف ستكون حياتنا بعد أن نعتاد على كل هذه المتغيرات. سنجد -مثلا- أن المتردي من شبابنا أصبح متيقنا أن هناك منافسا شرسا له في كل مجال، حتى في القطاع العسكري، وهي الأنثى التي كانوا يحمونها منه بكثرة الحواجز وقليل من القوانين، حتى شعر أنها أضعف منه وعاملها على هذا الأساس، وكان يهددها ويبتزها لأنه يعرف مدى حدود معرفتها، حتى زوجته التي تربي أبناءه، كان يهددها لعدم إلمامها بحقوقها.

أما اليوم، فسيعرف الرجل وستعرف المرأة أن البقاء لمُتّبع النظام وليس للأقوى، حتى في قيادة السيارة واستخدام الطائرة، والأماكن المشتركة والمختلطة، وسيكون الرقي في التعامل هو أساس سير الحياة وليس العكس. وكل هذا سينتقل شيئا فشيئا إلى الجوانب الأخرى من الحياة العامة، إذ سيكون احترام عقائد العمالة والخدم، وتوفير الدعم لهم، ومساندتهم أساس بقائهم وليس «العفرتة» والاستبداد. حتى يصل الرقي بنا إلى أن نهتم بعقائد السياح والأجانب بشكل عام، ولا نجبرهم على التقيّد بعقائدنا، وسيأتي يوم نسعد بتوفير ما يُسهّل لهم ممارسة عقائدهم، كما نسعد حينما تتوافر لنا «سجادة ومصحف» في فندق باليابان -مثلا- من قِبل مديره «اللاديني» مثلا. كل هذا سيغيّر من تصاميم مستشفياتنا ومطاعمنا وحدائقنا، والأماكن العامة، لتصبح كل منها تمثل الهوية الثقافية للسكان الأصليين لتلك المدن والمحافظات، لأننا لم نعد نخشى العنصرية التي وأدناها، لأننا علمنا حينها أن القوانين والنظام والانفتاح وتقبّل الآخر، واحترام حقوق الإنسان والحيوان، تجعل الكل يشعر بأن الوطن للجميع، وهنا المواطنة الحقيقية.