لم تكن الموسيقى فقط ضمن الاتفاق بين وزارتي الثقافة والتعليم الذي عقد قبل بضعة أيام، بل «الثقافة والفنون» حسب البيان الصادر عن الوزارتين عقب الاجتماع، ولكن الإتيان على ذكر الموسيقى في المدارس كفيل بأن يفتح أبوابا من التأويلات والاعتراضات والمناشدات التي يواجه بها كل جديد في التعليم، خاصة أن تغريدة وزير الثقافة عقب هذا الاتفاق كانت صورة لحصة موسيقية من مدرسة عريقة قديمة قبل أكثر من 40 عاما، وما يشبه الوعد أن أياما جميلة ستعود، بينما كانت تغريدة وزير التعليم «تبضّع» الفنون رغم جلبابها الواسع وتصف الاتفاق بالمبدئي.

أثمر لقاء الوزارتين عن عدد من النقاط منها إدراج الثقافة والفنون في مناهج التعليم العام والأهلي، والتساؤل الأكبر لدى المهتمين وغير المهتمين هو عن آلية هذا الإدراج وكيفيته؟ لا شك أن لدى الوزارتين خبراءها وخططها الخاصة لتنفيذ كل ما تعمل عليه، سواء وزارة الثقافة أو وزارة التعليم، ولكن الميدان التعليمي الذي يمثل بمنسوبيه -من الطلاب أو العاملين فيه وعليه- شريحة كبيرة من المجتمع، وعند حدوث أي مستجدات في هذا الميدان تكون ردة الفعل والارتباك والمقاومة أكثر بكثير من المجتمع المقابل من المهتمين بالثقافة والفنون. الثقافة بحد ذاتها -كما تناولت في مقالي السابق- لها معان وتفرعات كثيرة، والاهتمام بها يوثق البعد الإنساني لأي مجتمع، كما تعد الجوانب الإبداعية فيها قوى ناعمة تحرص الدول على المنافسة بها وتقديمها. الأمر ذاته ينصب على الفنون التي تتقاطع والثقافة في كثير من الأمور، وتشترك معها في أنها عاشت غربة ومقاومة ورفضا على المستوى الاجتماعي والمؤسساتي، وانقطاعا عن المشاركة في الحياة العامة لفترة طويلة تشكل فيها وعي المجتمع على تحريمها أو عدم أهميتها، ولا احترام لمن يهتم بها أو يمارسها.

هذه الصورة الذهنية لصورة المثقف وقصائده الحداثية أو كتبه الفلسفية والفكرية أو المسرحيات من مختلف المدارس الأدائية، أو تلك التي تتعلق بالموسيقى والغناء، استماعا أو عزفا أو أداء، لم تتشكل بسبب تلك القطيعة فحسب، بل لأنه كان هناك خطاب موجه مرافق عززته مبادئ الصحوة وأصبح مادة رئيسية على المنابر وفي المناهج الدراسية، وسببا في الفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة، وبنظرة على واقع الميدان التعليمي بالذات نجد أن هذا الخطاب ما زال موجودا، وإن لم يكن ضمنا في المناهج التعليمية القابلة للتعديل والتغيير، فهو موجود من خلال الممارسة بمنعه وتحجيمه أو التحذير منه صراحة على شكل مواعظ أو أحاديث جانبية لمن يؤمن بهذا التوجه ويحمله في صدره ويعبر عنه في قوله أو مقاومته. لهذا فإن العمل على تغيير هذه الصورة الذهنية التي كُرست عن المسرح والموسيقى، أو إن شئنا القول الفنون والثقافة وتصحيحها، ينبغي أن تكون أولوية لدى الوزارتين، خاصة أن هناك حراكا صادما إلى حد ما لأولئك المقاومين خارج منظومة التعليم والثقافة يحدث في فعاليات الترفيه على سبيل المثال، ومن الجيد أن يقابل بحراك جاد ومنظم داخل تلك المنظومتين.

من الناحية العملية في هذا الموضوع يتبادر للذهن عن مدى تحمل مناهج التعليم العام لدينا مزيدا من المواد الدراسية، سواء في عدد الساعات الدراسية أو الكفاءة في تقديم المادة المستحدثة أيا كانت. كما أن استحداث مادة جديدة -كالموسيقى مثلا- يتطلب تهيئة أكاديمية مختصة لمن يعلمها، وهذا ما لا يتوفر حاليا خاصة مع عدم وجود تخصصات جامعية أو معاهد مختصة لتدريس وتخريج معلمين للموسيقى والمسرح والمهارات الفنية والأدبية.

منذ بداية العام الدراسي 1438/ 1439 تم البدء بتطبيق برنامج التربية البدنية في مدارس البنات، وما زال البرنامج في تدرج لا يخلو من العشوائية حتى الآن، فهو لا يعد مادة دراسية بحتة لها منهاجها المعد مسبقا ولها آلية تقييمها وتجهيزاتها الخاصة كما هو في مدارس البنين، لذا أوكلت لبرامج النشاط اللامنهجي التي ضاعت فيها جدية التطبيق لهذه الإضافة المهمة لتعليم البنات، واتضحت ازدواجية التنفيذ لها في مدارس الإسناد، فضلا عن أن الأنشطة المدرسية تتشعب لمجالات كثيرة، منها المجالان الثقافي والفني اللذان بدورهما يتشعبان للعديد من الأنشطة التي لا تعطى حقها الكامل في الميدان، لكثرتها مع محدودية زمنها أمام واقع المدارس التي تتفاوت في جدية التطبيق لها أمام أولويات أخرى. وهذا ما لا يراد لهذه الاتفاقية بين الثقافة والتعليم، خاصة في مواضيع مهمة كالمسرح والموسيقى التي لا ينبغي لها أن تهمش بتركها في مهب برامج ومبادرات وآليات جامدة أو تعاطٍ بارد تقتل الروح فيها أو تغيبها تحت ضغط الأيديولوجيا الخفية التي إن لم تحرم فستؤسلم كل شيء في الميدان.

الجدل حول أهمية الثقافة والفنون في المجتمعات وإسهامها في رفع الحس الإنساني لدى الأفراد وتحسين جودة الحياة وفتح الخيارات المختلفة أمام المتعلمين، أمر لا يجب التوقف عنده كثيرا، سواء تم ذلك من خلال التعليم أو غيره، ما يهم الآن قبل أي وقت آخر أن تعمل الوزارات المختلفة بهذا التكامل على أفكار وقناعات الأفراد بالنقاش والحوار الصادق والصريح، وبناء بنية تحتية قوية لتأصيل الفن وتذوقه واحترامه لدى الجيل الجديد، وتعديل المناهج التي تناقض الواقع وتخلق حاجزا نفسيا بين خطط الوزارات وواقع المجتمع التعليمي.