يختلف البشر في طبائعهم وسلوكهم، تبعا لاختلاف تربيتهم وبيئتهم وظروفهم وفطرتهم، وأمور أخرى كثيرة.

في سورة الماعون، إضاءة سماوية علوية على ظاهرة بشرية أرضية سفلية، تكمن في دناءة بعض النفوس البشرية إلى درجة منع الماعون.

في صغري، كنت أستمع إلى برنامج جميل تبثه السعودية الأولى كل أربعاء بعد صلاة العشاء، اسمه «منكم وإليكم» يقدمه فضيلة الشيخ عبدالعزيز المسند -غفر الله له- وهو عبارة عن رسائل من المشاهدين، تتضمن أسئلة واستفسارات في شؤون الحياة كافة، وكان الشيخ يقرؤها مبتسما، ويجيب عنها بطريقة سهلة محببة، مرسلا بين السطور والابتسامة، رسائل إيجابية عميقة، ما زال أثرها في نفسي رغم انقضاء كل تلك السنين.

وحدث أن أرسلت إحدى المشاهِدات رسالة تحدثت فيها عن حيرتها، بعد أن دخل ولدها المدرسة، وحفظ سورة الماعون، وأخبرها أن هناك بعض البشر يمنعون الماعون.

وشعرت الأم بالذعر، لأنها منهم، إذ كانت جارتها تتفنن في طلب «مواعينها»، منها الخلاط الكهربائي، والفرامة، والمكواة وغيرها، والأم ترفض خوفا على أجهزتها من العطب أو الكسر، وأجابها الشيخ مبتسما أنه سعيد بأثر المدرسة في تعديل سلوك الطالب والأسرة من خلال آية قرآنية، «هل ما زال ذلك موجودا في مدارسنا ولو بصورة أقل بهاء ووضوحا؟!»، ثم شرح لها أن الماعون حسب تفسير بعض المفسرين «البعض الآخر من المفسرين فسرها بالزكاة»: هو الذي لا يلحق بإعارته ضرر لصاحبه، وفي الوقت نفسه يكون مفيدا لمن طلبه. مثل أن تطلب قِدرا كبيرا تطبخ فيه لأن لديها ضيوفا ثم تعيده كما هو، أو تطلب بساطا تجلس عليه عند خروجها للنزهة مع عائلتها ثم تعيده كما هو. وهوّن الشيخ على الأم وطمأنها، بأنها ليست ممن يمنعون الماعون، لأن الأجهزة الكهربائية حساسة ومعرضة للتلف، وثمن بعضها باهظ فيتعرض صاحبها للضرر.

ولأني معلمة، فإن الفصل الذي لا تتجاوز مساحته 4*5 من الأمتار، يظهر لي بين الحين والحين بعض هذه الطبائع البشرية الدونية، ومنها منع الماعون.

فالطالبة تريد قلم زميلتها الملون لتكتب عنوانا بارزا في دفترها، والأخرى تمتنع، بينما تشاهد طالبة ثالثة المشهد فتبادر بعرض قلمها للزميلة بنفس راضية.

يحدث أحيانا أن يكون لدينا اختبار أو مراجعة مهمة، وأمنحهن 5 دقائق للاستذكار وأراقب سلوكياتهن في المذاكرة: إحداهن تنزوي في زاوية الفصل، والثانية تتصفح الكتاب تصفحا، والثالثة لا تأبه للأمر، وتكتفي بمراقبة زميلاتها، والرابعة تطوف على زميلاتها تستفسر عن معلومة، وهنا تظهر «ويمنعون الماعون» بطريقة أخرى:

فهناك زميلة ترحّب بمشاركتها طريقتها في فهم المعلومة، وتشرحها لها بنفس راضية، وزميلة تعرض عنها بوجه عبوس مقطّب، وزميلة تعتذر بلطف ألا وقت لديها، وزميلة تعدّ ذلك غِشّا وتقدمها للعدالة «لي طبعا».

أحيانا أترك المشهد يكتمل، وأعلّق بآية أو حديث أو حكمة، وأكتبها على طرف السبورة باللون الأحمر غالبا، وأحيانا أكتفي بتعزيز الطالبة التي أبدت سـلوكا رائعا في التعامل مع زميلتها، وأغض الطـرف عن بقية المشاهـد، وأحيانا أتحدث عما شاهدت ولكن بعد مرور عدة أيام، وبشكل عام.

فيا أحبابي:

إذا كان منع الماعون صفة بشرية دنيئة، فإن منع العلم أشد دناءة وبشاعة، بل إنك عندما تعير قلمك ستبقى بلا قلم لبعض الوقت، وعندما تعيره معلومتك فإنها ستبقى معك كل الوقت، وعندما تتبادل مع الآخرين أفكارهم ومعلوماتهم وخبراتهم، فإنك تعيرهم عقلك دون أن تفقده، ويعيرونك عقولهم دون أن يفقدوها، فتصبح لديك عدة عقول في آن معا. انتهى الدرس.