يشهد العالم اليوم عددًا من المظاهرات الحاشدة وحركات العصيان المدني احتجاجًا على تلكؤ الحكومات في حل أزمة تغير المناخ ومواجهة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون التي تهدد مستقبل البشرية على كوكب الأرض.

أدت كثير من الاحتجاجات إلى استهداف مبانٍ حكومية وأملاك عامة ومصارف مالية أو تعطيل لخدمات السكك الحديدية في عدة مدن أوروبية، ما أدى إلى مشاجرات بين هؤلاء المحتجين وبين عامة الناس الذين يستخدمون وسائل النقل العامة؛ لأنهم كانوا يعيقون سير الحياة الروتيني، ويعطلون مصالح السكان اليومية.

وصلت هذه الاحتجاجات إلى مستوى عال من العنف سواءً مع رجال الشرطة أو مع مرتادي وسائل النقل، ونتج عنها كثير من الأضرار وتعطل سير الحياة، وكثير من المحتجين خاطروا بحياتهم حد الانتحار، بقذفهم أنفسهم على طريق السيارات المارة أو فوق خط سير القطارات، وتعرض كثير منهم للاعتقال والسجن بسبب ارتكاب جريمة تخريب الممتلكات العامة.

نحن هنا أمام حالة تطرف لا شك حتى لو كانت تحت دوافع نبيلة مثل حماية البيئة، وهؤلاء المحتجون ينطبق على غالبهم وصف «المتطرف» وعلى سلوكياتهم وصف «أعمال متطرفة».

يتبادر للذهن السؤال التالي: كيف يصبح الإنسان متطرفا، وهل ظاهرة التطرف تقتصر على المعتقدات الدينية وحسب، أم أنها تتجاوزها نحو أهداف نبيلة كحماية البيئة؟.

يطرح أستاذ القانون في جامعة هارفارد كاس سينشتاين إجابة مثيرة للجدل حول السبب الرئيس لوصول الإنسان لمرحلة التطرف، الذي لم تكن مناهج التعليم أو ثقافة المجتمع أو التراث الأدبي للأمة أحد مسبباتها الرئيسة، لم يتهم أي ثقافة أو ديانة أو مذاهب سياسية بأنها تقف وراء ظاهرة التطرف، وهذا ما جعل وجهة نظره جديرة بالاهتمام وأقرب للموضوعية والحياد والنقد الإيجابي، وأبعد ما تكون عن تصفية الحسابات أو توزيع التهم على الخصوم دون مراعاة لجانب البحث الموضوعي لظاهرة اجتماعية خطيرة تهدد أمن المجتمعات، وهي ظاهرة التطرف.

طرح سينشتاين مفهوم «الاستقطاب الجماعي» في دراسته لظاهرة التطرف كعامل مهم من عوامل التطرف وأداة فعالة لخلق معتقدات ورغبات جديدة تحدث دائمًا خارج محيط المجتمع الطبيعي، أي أن الجماعة المستقطبة تصنع أفكارها الجديدة التي تجنح نحو التطرف في بيئة منعزلة سيكولوجيا أو ماديا.

ماذا يحدث عندما يتكلم الأفراد مع بعضهم بعضا في بيئة منعزلة عن المجتمع؟ يطرح سينشتاين إجابة في غاية الأهمية على هذا السؤال بقوله: «يميل الأفراد المتشابهون في التفكير إلى الانتقال إلى صورة أكثر تطرفًا لما كانوا يفكرون فيه قبل أن يبدؤوا الكلام. في ضوء ذلك لنفترض أن جماعات مغلقة من الأفراد تميل للتمرد أو حتى للعنف، وأنها مفصولة عن غيرها من الجماعات، فقد تتحرك هذه الجماعات بحدة في اتجاه العنف نتيجة انعزالها الذاتي، وغالبًا ما تكون التطرفية السياسية إحدى نتائج استقطاب الجماعة، كما أن الانعزال الاجتماعي أداة أساسية لإحداث الاستقطاب».

نستنتج من إجابة سينشتاين، أن الميل للتطرف يحدث عندما يكون الأفراد على قدر كبير من التشابه في التفكير، وداخل جماعة منعزلة عن المجتمع، لذلك حرص مهندسو الاستقطاب على عزل أو فصل الجماعة عن بقية المجتمع، وقد يحدث هذا العزل إما سيكولوجيا أو ماديا أو عن طريقة خلق إحساس بالشك فيمن هم خارج أعضاء الجماعة، وهذا يسهل عدم تصديق أي آراء أو أفكار خارج محيط الجماعة. وهذا النطاق المنعزل الذي يستطيع فيه أعضاء الجماعة تبادل الأحاديث والأفكار غالبًا ما يكون تربة خصبة وبيئة مواتية لنشوء الحركات المتطرفة بأشكالها كافة.

بهذه الطريقة تتم صناعة الإرهابيين والحركات الإرهابية، وبهذه الطريقة يستطيع مهندسو الاستقطاب إقناع الأشخاص العاديين بالأعمال العنيفة أو بالأفكار المتطرفة التي لا تقتصر على الأفكار الدينية فقد تكون أفكارا فلسفية أو مبادئ إنسانية غير متطرفة، ولكن الإيمان بها يأخذ منحنيات متطرفة يصعب كبح جماحها.

والفرد المنخرط في جماعة ما قد يكون إنسانا معتدلا لا يحمل أي أفكار متطرفة أو نزعة تجاه العنف قبل أن يتعرض إلى عملية الاستقطاب، ولكن بعد أصبح عضوا في حركة ما، وبعد أن سمع كثيرًا من الآراء والحجج والبراهين التي تنبثق من خلال المناقشات المغلقة في محيط منعزل ومفصول عن المجتمع، وهذا سيؤدي إلى تأثر أعضاء الجماعة بالآراء القريبة لتوجههم، ومن هنا ندرك كيفية خلق المعتقدات والأفكار الجديدة بواسطة عملية الاستقطاب، وحسب سنشتاين، فإن عملية الاستقطاب الجماعي لم تكن يومًا ثمرة ثقافة معينة أو أنساق اجتماعية معينة، فلا توجد أمة على سطح الأرض ثبت عدم وجود استقطاب الجماعة فيها.

وفي العصر الحديث، يلتقي الشباب عبر شبكات الإنترنت، ويناقشون قضايا اجتماعية وسياسية عدة، بعيدًا عن رقابة الأسرة أو أجهزة الدولة، فقد خلقت التقنية نوعًا جديدًا من العلاقات بين الأفراد، وتتميز باختصار الزمن والمسافات، وأصبحت وسيلة فاعلة لتنشئة الشباب ثقافيًا عبر تبادل الأفكار المتنوعة، ومن خلالها أيضا يسهل استقطابهم حول قيم مشتركة في بيئة منعزلة نفسيًا وثقافيًا عن المجتمع وقيمه.