يقول سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية. في خطبة الجمعة الأخيرة في الحرم المكي الشريف، حذر الإمام من العصبية بأنها دعوى جاهلية، وأنها مفاهيم تتعارض مع الحق والعدل والموضوعية، وأنها داء عُضال وخطر داهم يقضي على معاني الإنسانية، وهي داء يصيب الفرد والأمة والمجتمع، وعندما يستفحل ويتفشى فإنه يفتك بالناس فتكا، لأن في التعصب والتصنيف غلوا وتطرفا ودعوى للفرقة مع الجماعة أو الفئة أو الحزب أو الطائفة أو العرق أو القبيلة، وأن ذلك جميعه فيه انقياد عاطفي مقيت، يدعو للتمسك بمبادئ وأفكار ليس فيها مكان للتسامح أو التفاهم، بل وتَحُول دون قبول الآخر المختلف. وعلى الرغم مما يدعو إليه ديننا الحنيف من أهمية التمسك بمبادئ الحب والتسامح والعدل والمساواة والوسطية في جميع الأمور الدينية والدنيوية، لما فيه صلاح المجتمعات ومصدر قوتها وتماسكها، وأن الناس سواسية في حقوقهم الإنسانية، وليس فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، مصداقا لقوله تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الحجرات: 13)، إلا أننا نجد أن العنصرية والعصبية بأنواعها تمُزق المجتمع وتُضعف لحُمته الوطنية والإنسانية، وتدفع به نحو تحزبات وتصنيفات مختلفة لفئات المجتمع، منها الديني والعرقي والمذهبي، ومنها السياسي والفكري والثقافي والمناطقي والرياضي وغيره، بما يضعف شوكته ويفتت أركانه، استنادا إلى قوله تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» (الأنفال:46)، وقوله: «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء» (الأنعام: 159).

ومن البديهي الرجوع إلى طبيعة تكوين المجتمعات الإنسانية جميعها، والتي خلقها الله -سبحانه وتعالى- من تراب، بأنها لا تتمايز فيما بينها إلا بقدر قربها من الله وطاعته في العبادات، وبقدر نجاحها في تطبيق وتنفيذ محتوى العقيدة ومقاصدها في المعاملات، وذلك منهج ديني نؤمن به كمجتمع مسلم ونعتقد بجميع تفاصيله، وإن المجتمعات المدنية التي لا تحتكم إلى الدين أو تستند إليه كمنظم لأمورها المجتمعية والمؤسسية بصفة العموم، فإن القانون هو مرجعها، ومعيار الأفضلية في التميز عندها يكون بالأهلية في التمكن من المعرفة والقدرة المكتسبة من العلم والخبرة، وغيرها من القدرات المطلوبة لحسن الأداء في المكان المناسب أو الحاجات المستحقة، وبذلك يكون التنافس والمفاضلة في التمكين لأي منصب أو استحقاق أو غير ذلك من المستحقات الوطنية والمجتمعية بصفة العموم.

وبناء على ذلك التمايز بين المجتمعات في تنظيم أسس تعاملاتها التساؤل المطروح، لماذا لا تدخل تلك المعايير المدنية المتبعة في الدول المتقدمة، والتي يتضمنها ديننا في جانبه الخاص بالمعاملات، في جميع الأمور المدنية والمجتمعية؟! تلك المبادئ والقيم التي تدعو لبلورة العدالة والتسامح والمساواة كقاعدة في التعاملات، وتهتم بالأهلية والكفاءة في التمكين، ولماذا لا نستدرك بأنه بتطبيق تلك المفاهيم والقيم الإنسانية نجحت وتفوقت المجتمعات الإسلامية السابقة على غيرها من المجتمعات آنذاك؟! وأنها حين تعثرت وضعفت شوكتها كانت قد تخلت عن تلك المعايير المدنية والمفاهيم المنظمة للمعاملات المجتمعية، فحصدت الانكسار والتخلف والتفكك بسبب العصبية والعنصرية باختلاف مكوناتها وتحزباتها الفلسفية والدينية والقومية.

مما لا شك فيه أن جميع أشكال التعصب والتصنيف المختلف في أي مجتمع تتولد عنه عداوة وكراهية وحقد، وأن المنابذة بالألقاب والأنساب ما بين فئات المجتمع تسهم في زرع الضغينة والتفكك بين أفراد الشعب الواحد، فينخر الضعف أوصاله، وتسود المناظرة الخاسرة بين طبقاته وفئاته، فلا يحصد المجتمع إلا الفشل والتعثر في تحقيق منجزاته وتطلعاته الوطنية جميعها.

من الطبيعي أن تلك القيم والمبادئ الرفيعة لا تطبق بعدالة في معظم دول العالم ومجتمعاتها، وأن وجود الاختلاف والتعصب على اختلافه أدى إلى تلك النكسات والحروب والنزاعات التي تعيشها مختلف شعوب العالم ودوله اليوم، سواء على الصعيد الداخلي أو في علاقاتها الدولية، ويبرز ذلك بوضوح في الدول التي فشلت في تذويب تلك الاختلافات في إطارها الوطني، وفي ذلك يشير الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرا، إلى أن تلك القيم الإنسانية من العدالة وكرامة الإنسان والتسامح والتضامن تتعرض للهجوم في جميع أنحاء العالم، وأنه لا يمكن أن يكون هناك مجال لخطاب الكراهية أو التعصب أو كره الأجانب، وأننا سنحاربه في أي وقت وأي مكان.

لا شك أننا نؤمن جميعنا بأن جميع الأديان السماوية تدعو لذات القيم والمبادئ العادلة السمحة التي تحفظ حقوق الإنسان وتصون كرامته، لأن الله منزلها جميعها وهو من خلق الناس وأرسل الرسل، كما نؤمن كذلك بأن ذلك الاختلاف موجود بين البشر في جميع أنحاء العالم وبدرجات مختلفة، لأن جميع المجتمعات الإنسانية تعرضت للاختلاط العرقي والديني والفكري والثقافي بسبب الهجرة من مكان لآخر على مر التاريخ، سواء كهجرة دائمة أو مؤقتة، أو بسبب ذلك التلاقح الفكري والثقافي المستمر نتيجة التبادل المعرفي والتقدم العلمي ومفرزاته المختلفة، والذي تساعد وسائل التواصل الاجتماعي في سرعة نشره وعمق تأثيره وعالميته.

لا نحتاج لأن نؤكد على سلبيات التعصب والعنصرية بمختلف مكوناتها، وأنها سبب في تفكك وضعف اللُّحمة الوطنية التي يجب أن تتوحد تحتها جميع الانتماءات الفرعية باختلاف مرجعيتها، ليكون الوطن هو المظلة العليا التي تكتنف الجميع، وهو الشعار والرمز الذي يسعى الجميع إلى رفعته وسموه، ليكون خفاقا يرفرف فوق الرؤوس جميعها بعز واقتدار.

من خلال التعليم الجيد المدروس، والتربية الدينية والأسرية الصحيحة المعتدلة، والإعلام الفاعل الموجه، يمكننا تصحيح كثير من السلبيات التي نجدها في المجتمع، والتي تشكل حجر عثرة في تطوير المجتمع وتنميته المستدامة، وبسن القوانين المدنية والتشريعات المنظمة للتعاملات في الحياة الاجتماعية والمؤسسية، يمكننا تخطي كثير من التحديات، لنحصد ونجني ثمار بذور زرعناها، ولم نقطفها بعد!