بحكم تخصصي العلمي تركزت معظم كتاباتي طوال مسيرتي مع عالم الكلمة على الشأن الاقتصادي، وقد كان وراء ذلك التركيز قناعة ذاتية تولدت لدي أثناء دراستي العليا لعلم الاقتصاد، إذ كنتُ أختار مواد إضافية من علم الاقتصاد، في الوقت الذي كان متاحاً لي الاختيار بين بدائل دراسية عديدة، حيث إنني كنت مقتنعاً أن التزود من علم التخصص يسهم إلى حد كبير في إثراء قدرتي على التحكم بالعلم المعني، وبالتالي يكون المتخصص أكثر درايةً وفهماً وقدرةً على تطويع هذا العلم بما يتوافق مع الأحداث وتبدل الأحوال.

لكن ذلك التركيز لم يمنع أن يكون هناك استثناء بين وقت وآخر، في محاولة لأن يضيف الإنسان إلى حياته نوعاً من التغيير أو التجديد. هذا لا يعني بالضرورة رتابة علم الاقتصاد، فهو علم واسع يتسع لكل ما يخص حياتنا فوق هذه الأرض الواسعة.

وأجد نفسي عندما أكتب بعيداً عن الاقتصاد أنني أميل إلى الشأن الاجتماعي مع لمسات من المشاعر والخواطر الإنسانية. أنت عندما تكتب عن المجتمع لا يمكن أن تنسلخ من سمتك كإنسان يعيش في هذا المجتمع ويكوِّنه. والإنسان بطبيعته مخلوق من كتلة من المشاعر والأحاسيس. وكثيراً ما حاولت سواءً فيما أكتب في الشأن الاقتصادي أو من خلال محاضراتي التي كنت أقدمها لطلابي في قسم الاقتصاد بجامعة الملك سعود أن أربط الفكر الاقتصادي ونظرياته بواقعنا الاجتماعي أو السياسي والفكري عموماً؛ إيماناً مني بأن ذلك يسهم إلى حدّ كبير في نقل وصقل المعلومة العلمية، وجعلها أقرب إلى الفهم، بعيداً عن الحفظ الذي بُني عليه نظام التعليم في الدول النامية عموماً.

وأذكر في هذا السياق أنني استشهدت مرة ببيت ينسب لأمرئ القيس يقول فيه:

فقبلتها تسعا وتسعين قبلة

وواحدة أخرى وكنت على عجل

وذلك في شرحي لنظرية تناقص المنفعة الحدية، وأعني بذلك أن قبلته الأخيرة كانت على عجل؛ لأنه استهلك من هذه «السلعة» وحدات كثيرة، وهذا تماماً ما تقوله النظرية الاقتصادية.

وعلى هذا النهج، صدر لي قبل سنوات قليلة كتاب تضمن لمحات عن مسيرتي في هذه الدنيا، استعرضت فيه قصصاً ومواقف عايشتها أو وقفت عليها، شكّلت مراحل تطور حياتي والمتغيرات الطبيعية التي مرت بها. عنونت الكتاب باسم «من كسر غصن الشجرة؟». ويبدو أن في هذا العنوان ما يدلّ على محتوى الكتاب، إذ يميل في الغالب إلى سرد قصص ومواقف تعكس حالات يمكن وصفها بالصعبة وغير المتوقعة وقد تتنافى مع البعد الإنساني السوي الذي نتمناه أو نتوقعه، وهو ما يعكس كم يجهل هذا الإنسان حقيقة أن هذه الدنيا فانية. ونحن كبشر نميل في الغالب إلى أن نتذكر القصص والمواقف الصعبة أو تلك التي تخرج عن المألوف والعرف في المجتمع، في الوقت الذي لا تختزن فيه ذاكرتنا أيام الفرح والسعادة، وهي دلالة على أن الإنسان لا يقبل الظلم أو الإساءة، ويميل بطبيعته أيضاً إلى العيش بهدوء وتسامح ومحبة. وتفسير ذلك التأثير اقتصادياً، هو أنه ينعكس إيجاباً على البعد الاجتماعي في تفسير واقع الاقتصاد عموماً، فالفرد هو مكوِّن المجتمع، والمجتمع هو الذي يكوّن الاقتصاد، فإذا صلح هذا الفرد صلح المجتمع والاقتصاد كله.