عندما قرَّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرض رسوم جمركية أعلى على بعض الواردات، قوبل قراره من قبل الدول الصناعية الكبرى المعنية بالأمر بالاستنكار، معتبرة أنه إفراط في الحمائِيَّة يتعارض مع المبادئ التي تقوم عليها منظمة التجارة العالمية، في الوقت الذي يرى فيه ترمب أن قراره يأتي في سياق شعاره الكبير «أميركا أولاً»، وهو برؤيته هذه يمزج السياسة بالاقتصاد، بل يسخِّرها من أجل تحقيق مكاسب سياسية في المقام الأول، وتحقيق مكاسب اقتصادية أيضاً تدعم إنجازاته الاقتصادية الداخلية المتميزة خاصة تلك التي تتعلق بالتوظيف، إذ حقق الاقتصاد الأميركي مؤخراً أرقاماً قياسية في خلق الوظائف، وهو مؤشر إيجابي بلا شك تمكَّن ترمب من استثماره سياسياً، خاصة على الصعيد الداخلي في مواجهة الحملات المتزايدة ضده في مسألة التورُّط الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما يواجهه حالياً في مجلس النواب «الكونجرس» من تحقيق يسعى من ورائه الحزب الديموقراطي، المسيطر بغالبيته على المجلس، إلى عزله بدعوى تجاوزاته فيما يعرف بقضية أوكرانيا، وتورطه في الربط بين الدعم الأميركي لأوكرانيا مقابل دعم شخصي له للتأثير على الانتخابات الرئاسية القادمة التى يسعى ترمب للفوز بها وتثبيت دعائم حزبه الجمهوري.

هذا مثال حي للجدل الدائر في الأروقة السياسية حول السياسات الاقتصادية في معقل الرأسمالية وقمة الدول الصناعية في العالم. ومن يقرأ ما بين السطور في هذا الجدل الدائر، يمكنه أن يتبين التأثير السياسي الواضح على القرار الاقتصادي، لكنه في الوقت نفسه يمكنه أن يستخلص الدور المهم الذي تؤديه السياسات الاقتصادية في توجيه الاقتصادات ورسم معالمها المستقبلية، لتكون متسِقَةً مع المعطيات والظروف التي نتعامل معها؛ فلكي تعمل تلك السياسات الاقتصادية على تحقيق أهدافها والوصول إلى النتائج المخطط لها، فهي لا بد من أن تراعي تلك المعطيات السياسية والظروف المحيطة بها داخلياً وخارجياً، وتواءِم بينها وبين الإمكانات والخيارات المتاحة. هذه الديناميكية والواقعية هي جوهر السياسات الاقتصادية الفاعلة التي لا تركن إلى البُعد النظري البحت، بل تسترشد به وتوظِّفه للتعامل مع الواقع بموضوعية ومهنية عالية، وهي إن حققت هذا المزج بمهارة ومهنية، إنما تبتعد عن مواطِن الجَدَل وتنتصر للمنطق السَّوي الذي يسود إن اعتبر المصلحة العامة أساساً بعيداً عن أي اعتبارات تمسُّ بها أو تناقضها، أي أننا نتحدث عن نهج يحتكم إلى الأصول العلمية المعتبرة لتكون نبراساً ومشعلاً يقود الوصول إلى منصَّة الهدف والمبتغى، وهي ليست مهمة سهلة لكنها تتطلب هذا العقل المنفتح أمام الواقع.