العقلية المستقلة التي لابد أن تكون نصب العين في كل تحقيق عقلي وعلمي، كان أول ظهور لها في الحضارة الإسلامية بشكل واضح جلي، في لقاء الفقهاء مع المنطق اليوناني وعرابه الكبير أرسطو، الذي حمل تراثه ما لا يحتمل وضُخم تأثيره وأدواره في كل نتاج علمي أو أدبي في المجتمع الإسلامي سابقا.

كان لمنطق أرسطو وجود هامشي لا يتجاوز 1 % من بقية اهتمامات الفقهاء وإبداعاتهم ونتاجهم العلمي، وحتى من تبنوا المنطق فإنهم بعد الاطلاع الكافي والدراسة المستفيضة ظهر لهم عقم هذا المنطق، ولعل أحدهم ابن سينا الذي يعد من أكبر شارحي منطق أرسطو، ففي مقدمة كتابه الشهير (الحكمة المشرقية) نجده يهاجم أتباع أرسطو كما يهاجم المدافعين عن الفلسفة المشائية، بعد أن كان يتبناها طوال سنوات عدة. والمطلع على كتاب ابن سينا - الحكمة المشرقية - يجده يبرز نواقص منطق أرسطو وتهافت فلسفته من خلال إصلاحه وإكماله، وتسليط الضوء على جوانب القصور فيه.

واجه المنطق اليوناني رفضا كبيرا في الفكر الإسلامي القديم، وهذا الرفض لم يكن بدافع التعصب والاعتراض دون سبب، بقدر ما كان رفضا علميا يعكس تقدما فكريا كبيرا بين الفقهاء، فمواجهة المنطق اليوناني بهذا القدر من الثقة، وطرح الحجج والبراهين التي تثبت تهافته وإبراز نقاط الضعف فيه، وإيجاد منطق بديل ومناهج للتفكير والبحث أكثر تقدما، يجعلنا نقف احتراما وتقديرا لهؤلاء الفقهاء، ونقول وبكل ثقة إن الفقه الإسلامي كان منجزا حضاريا فريدا يعكس نهضة فكرية وعلمية لا يشكك فيها إلا جاهل أو مثقف من الدرجة العاشرة.

وكما تعرض منطق أرسطو للنقد والرفض في العالم الإسلامي، فإن نفس النقد والرفض تكرر مع رواد الفلسفة الغربية الحديثة، وكلنا نعرف أن فلسفتي ديكارت وروجر بيكون قامت أساسا على رفض المنطق الأرسطي، كما نعرف أن ديكارت وبيكون قد تأثرا بفكر الفقهاء العرب، ورفضهما للمنطق الأرسطي كان بتأثير واضح منهم، وكان روجر بيكون يعد المنطق فنا تافها، وفرانسيس بيكون كان من أشد أعدائه ودائما ما يؤكد على اتباع التجربة والاستقراء وعدم الإتكاء على القياس الأرسطي.

إن رفض الفقهاء للمنطق الأرسطي لم يكن اعتباطيا، فقد كان مسبوقا بإيجاد منطق ومنهج بديلين، يعتقدون بفعاليتهما ومنطقيتهما، فالمناقشات العلمية التي اتسع نطاقها منذ فجر الإسلام فيما بين رجال الفقه ينصب جملة وتفصيلا في الكشف عن وجوه الحق ومحاولة استنباط الأحكام من الأدلة، فقد يسكنهم هاجس التأويلات والتفسيرات والاجتهادات التي لا تخضع لقواعد وموازين يعتمد عليها، لذلك سارعوا لإخضاع مناقشاتهم واجتهاداتهم لقواعد أعطوها حقها من الدراسة والتمحيص، وبنوها على أصول أجمعوا عليها تقريبا وجمعوها في علم أصيل محض سموه: علم أصول الفقه.

اهتم الفقهاء بهذا العلم وصرفوا أوقاتهم وأنفسهم في سبيل إيجاد أفضل طريقة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية دعما للحق وحدّا للأهواء، ونهجوا في ذلك مناهج مختلفة واستنبطوا فنونا من العلم لم تكن موجودة من قبل، ولعل أحدها منهج الاستقراء الذي أصبح طريقا شرعيا لإثبات القواعد الفقهية، فالاستقراء الذي يعرف اختصارا بتقرير أمر كلي بتتبع جزئياته، هو أحد أهم طرق الاستدلال عند الفقهاء، والتي تعد ثورة منهجية علمية ضد المنطق اليوناني، كان دافعها الإيمان القوي والثقة بالنفس والإحساس العميق بأنهم أمام مسؤولية حضارية، والإخلاص الكبير لهذه المهمة في زمن تنقصه الإمكانات والمراجع تجبرنا اليوم على الوقوف لهم احتراما وتقديرا.