في عام 1905م بدأت اليابان تسير في طريق الحضارة عندما هزمت روسيا بسبب الصراع الاستعماري على كوريا، حيث بدأت النهضة الفعلية لليابان عندما أتى الإمبراطور موتسوهيتو - واسمه الأصلي «ميجي» أو كما عرف بـ(الحاكم المستنير) - عام 1868، حيث كانت معزولة وإقطاعية وغير صناعية، فتحولت إلى قوة صناعية وعسكرية، فكسر عزلة البلاد وتقوقعها (بسبب حكم أسرة الشوغون / حكم العسكر الذي امتد لقرون)، وألغى الطبقية، وقضى على حكم العسكر، وتقارب مع الغرب وأخذ منهم حاجاتهم الضرورية بعيدا عن الترف والملذات، واستعان بأنظمتهم ونقل الصناعة والمعرفة لبلاده، وبدأ في الانفتاح التجاري والعلمي والعمل الجاد، وساهم في تكوين طبقة الفلاحين المنتجين بتمكينهم من تملك الأراضي الزراعية والارتقاء بالنظام التعليمي، واتحدت الأجهزة الحكومية مع شركات القطاع الخاص لتكوين قوة اقتصادية، وبتحالف مع الشعب أيضا ويتمثل ذلك في وقوفهم مع حكومتهم خلال فترات ضعف في 1974 و1979 بسبب ارتفاع سعر النفط، حيث ساهموا في ترشيد استهلاك الطاقة، وبذلك استقلت اليابان بحضارتها في وقت قياسي (في أقل من نصف قرن)، وأصبحت دولة منتجة بعد أن كانت مستوردة.

نتيجة لما سبق فقد ارتفع متوسط دخل الفرد الياباني، وتحققت لأفراده الضمانات الاجتماعية الكافية التي تحقق له شروط السعادة، وتضمن له الأفضل في أسلوب وجودة الحياة، وتقضي على مشكلاته الاجتماعية كالفقر والجهل والأمراض وغيرها، وهي من الأعراض الأساسية لمشكلة الحضارة. وبما أن تكوين الحضارة في مجتمع ما مرتبط بقوتها ومظاهرها الاقتصادية، فذلك تلقائيا يؤدي لبناء المجتمع ونهوضه. والمجتمع المتعارف عليه في حقيقته ومعناه لا يمكن اختزاله وتعريفه من خلال عدد أفراده وتجمعهم، ولكن وظيفته الأساسية تكمن في تحقيق راحة الفرد وحفظ كيانه وهو - أي المجتمع - كما يعرفه عالم الاجتماع مارشال جونز بأنه: «نوع معين من الجمع يتميز بالاكتفاء الذاتي والقدرة على تزويد أفراده بجميع احتياجاتهم الضرورية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي دون الاستعانة بغيره من التجمعات»، وحضارة المجتمعات تكمن في ما تنتجه وتصنعه وليس العكس (كما في النمودج الياباني).

إذن فالحضارة والسعي لبناء المجتمعات وسعادة أفرادها تحققه التنمية الاقتصادية - وما يرافقها من تغيرات اجتماعية وثقافية - بواسطة العناصر الأساسية للتحضر: استغلال الطاقات البشرية (تعليم وتربية وقدوات وأخلاق)، وكذلك باستغلال عاملي الأرض والوقت، وبناء على ذلك فالواجب على الأفراد أن تتضافر جهودهم، كل يقوم بمهمته في مجاله، وكذلك بمواجهة كل ما من شأنه تخريب المجتمع وعرقلة عجلة التنمية، وهنا يتحقق المطلوب للنهوض الحضاري من خلال التوازن بين الحقوق والمسؤوليات.